دخلت نقابة الأطباء المصريين في صراعات عديدة مع الدولة من أجل مختلف القضايا المهنية والسياسية، طوال العقود الماضية منذ تأسيسها في 28 حزيران/ يونيو 1940، كرابع نقابة مهنية بعد المحامين والصحفيين والمهندسين. وإبان سيطرة جماعة "الإخوان المسلمين" على مجلس نقابة الأطباء المكوّن من 12 عضوا، منذ ثمانينات القرن الماضي، استهدف نظام الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك العديد من أعضاءها بالاعتقال والمحاكمة، فضلا عن تكبيل النقابة مع باقي النقابات بالقانون رقم 100 لسنة 1993. فمنذ عام 1993، لم تستطع نقابة الأطباء إجراء أية انتخابات خاصة بها، بسبب قانون النقابات المهنية رقم 100 لسنة 1993، والذي شل عددا كبيرا من النقابات من إمكانية عقد الانتخابات الداخلية. وعقب إسقاط هذا القانون بعد ثورة 25 يناير بالحكم بعدم دستوريته، وإجراء أول انتخابات لنقابة الأطباء في أكتوبر 2011، اكتسحت جماعة الإخوان الانتخابات، وسيطر على خطابها القضايا السياسية. وفي انتخابات التجديد النصفي للنقابة التي تم إجراؤها في كانون أول/ ديسمبر عام 2013، وفي ظل تغييب قيادتها في السجون والمحاكمات، وهروب غالبية أعضائها المؤيدين للجماعة عن التصويت، عقب انقلاب 3 تموز/ يوليو 2013، تراجع نفوذ "الإخوان المسلمين" في الجمعية العمومية للنقابة والذي دام قرابة الثلاثين عامًا، فحصل "تيار الاستقلال" و"أطباء بلا حقوق" على أغلبية مقاعد مجلس النقابة. وفاز الدكتور حسين خيري، نقيب الأطباء الحاليين، بالمنصب بتاريخ 12 تشرين أول/ أكتوبر 2015، فيما حظيت الدكتورة منى مينا بمنصب وكيل للنقابة؛ حيث حرِص كلاهما على البعد عن القضايا السياسية ورفض التدخل في الدفاع عن معتقلي الإخوان من الأطباء أو أحكام الإعدام والسجن التي طالتهم، وتأييد السلطة الحالية. "الداخلية بلطجية" في ظل الانتهاكات المستمرة ضد الأطباء والمعارك مع السلطة حول مطالب نقابية ومهنية؛ أبرزها الكادر والتأمين الصحي، ومع تصاعد الاحتجاجات، بدأ مجلس نقابة الأطباء يواجه صراعا وامتحانا في الدفاع عن كرامة الأطباء الذين اتهموهم بالتخاذل، وهنا عادت لأول مرة في عهد السيسي الشعارات والهتافات السياسية ضد السلطة، وأبرزها "الداخلية بلطجية". وتفجّر الوضع عقب قيام 11 أمين شرطة بالاعتداء على طبيبين مصريين في مستشفى "المطرية" بالقاهرة، وتأزّم أكثر عقب الإفراج عن 9 من الضالعين في هذا الاعتداء ورفض محاكمتهم، ما حدا بالأطباء في عدد من المستشفيات إلى الإضراب عن العمل والنزول إلى الشارع، مطالبين بحمايتهم عبر عقاب رادع للمعتدين، وتعزيز وسائل حمايتهم وتركيب كاميرات مراقبة في المستشفيات، والأهم دعم موازنة الصحة. وشكّل إضراب الأطباء وإغلاق المستشفيات، في تحدٍ لمطالب النائب العام بفتحها، سببا أساسيا دعت على إثره نقابة الأطباء إلى جلسة خاصة وطارئة لجمعيتها العمومية، يوم الجمعة 12 شباط/ فبراير الجاري. وقد حضر جلسة الجمعية العمومية أكثر من 10 آلاف طبيب، وهو ما يمثل عشرة أضعاف العدد المطلوب لاكتمال النصاب القانوني لعقد الجمعية، وقدمت الكثير من النقابات المهنية والعمالية والاحزاب دعمها لنقابة الأطباء في موقفها الحالي ما قوي موقف النقابة ودعمه. وأصدرت الجلسة في ختام جلستها، بيانا يحمل توقيع 13 جمعية حقوقية تؤكد تضامنها مع نقابة الأطباء، في الوقت الذي تصدّر فيه وسم "أنا أدعم الأطباء" مواقع التواصل الاجتماعي في مصر، أمس الجمعة. ومن أبرز قرارات الجمعية العمومية للأطباء؛ الامتناع عن تقديم الخدمة الصحية للمواطنين بأي مقابل وتقديمها بالمجان، حتى يكون توجيه الإضراب ضد الدولة ولصالح المواطن. كما أعلنت الجمعية العمومية دخول الأطباء في إضراب جزئي عمومي بعد أسبوعين من الآن إذا لم يتم تنفيذ مطالبهم، والإغلاق الاضطراري لأي مستشفى تتعرض لاعتداء من أي بلطجية وإغلاقها تماما. ومن المطالب الأخرى؛ تأمين المستشفيات ومنع دخول أي فرد مسلح إليها وإيقاع عقوبات إدارية وجنائية على أمناء شرطة "المطرية". كما قرّرت تحويل الدكتور أحمد عماد الدين وزير الصحة ل "لجنة التأديب" بالنقابة بسبب عدم دفاعه عن الأطباء. من جانبه، كشف عضو مجلس النقابة ومقرر "لجنة الحريات" فيها، أحمد شوشة، إن قرار النيابة العامة إخلاء سبيل أمناء الشرطة صدم جميع الأطباء، وزاد غضبهم، مضيفاً "النيابة وجهت لهم 5 تهم، فيما اتهمتنا ب 10، ثم أخلت سبيلهم في موقف يثير العجب، والنقابة ستتظلم من القرار". ويعد هذا رابع إضراب لنقابة الأطباء منذ عام 2011، والأول منذ رحيل مبارك، الذي يرفع فيه الأطباء خلال عموميتهم لافتات سياسية كتبوا عليها "كرامة الأطباء خط أحمر" و"لن نتنازل عن حقوقنا"، مردّدين هتافات "حاتم لازم يتحاكم"، و"الداخلية بلطجية"، و"ارحل يا وزير الصحة". إضراب مايو 2011 وكان الإضراب الأول للأطباء بحثا عن حقوقهم المهنية، قد جرى في أيار/ مايو 2011، عقب تولي المجلس العسكري الحكم بعد تنحي الرئيس السابق مبارك، وكان بشكل جزئي حيث لم يشمل إضرابهم العناية المركزة والطوارئ. وشملت الدعوة لهذا الإضراب المطالبة بحقوق الأطباء وحقوق المرضى، عبر المطالبة بمطالب زيادة ميزانية الصحة إلى 15 في المائة، من أجل ضمان تحسين الرعاية الصحية وتطوير المستشفيات، إلى جانب إقرار مشروع الكادر ليستوعب جميع العاملين بالقطاع الطبي من الفنيين وتأمين المستشفيات. وانتهى الإضراب الذي لم يدُم طويلا، دون تحقيق أي من هذه المطالب باستثناء قطع الوعود، كما تردّدت أنباء حول سعي أعضاء مجلس النقابة من الإخوان لتعليق الإضراب، في محاولة لإعطاء المجلس العسكري فرصة لإصلاح الأوضاع. إضراب أكتوبر 2012 تكرّرت خطوة الإضراب في 10 تشرين أول/ أكتوبر 2011، من أجل تحقيق ثلاثة مطالب (الكادر، حقوق الأطباء والعاملين، حقوق المرضى)، وقد كان إضرابًا مفتوحًا وغير محددٍ بمدة من أجل زيادة الضغط على الدولة لتنفيذ تلك المطالب. وقد استمر ذلك الإضراب 82 يومًا، وحظي بتأييد بعض أعضاء مجلس النقابة من الأغلبية الإخوانية، ومعارضة آخرين، وانتهى أيضا إلى وعود. إضراب مارس 2014 كان هذا أول إضراب للأطباء يجري عقب الانقلاب وترشيح عبد الفتاح السيسي للرئاسة، وكان الهدف منه رفض "قانون تنظيم المهن الطبية"، والذي أرادت الحكومة تمريره بديلًا من مشروع "قانون الكادر" الذي تدعمه نقابة الأطباء. وقد استجابت الحكومة وتراجعت عن تطبيق ذلك القانون، وأصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي القانون رقم 118 لسنة 2015، والذي بدأ تنفيذه بالفعل. وكان "قانون الكادر" هو المطلب الوحيد للنقابة الذي تحقق والذي بدأ العمل به بعد العديد من الصراعات والجدالات بين النقابة والدولة، وبموجبه تم رفع رواتب الأطباء في المستشفيات الحكومية ليصل الي قرابة 2400 جنية (حوالي 300 دولار) بعدما كان يعادل نصف هذا المبلغ. ولكن استمر رفض أطباء له لأن رواتبهم هي الأدنى في مصر ولا تقارن حتى برواتب أمناء الشرطة الذين تعدوا عليهم في أزمة الإضراب الأخيرة، كما استمر غضبهم لعدم تنفيذ الدولة باقي مطالبهم المتمثلة في تحسين الملف الصحي والمستشفيات ككل. تحدي منع التظاهر ويشهد إضراب شباط/ فبراير 2016، رفع الأطباء للافتات كُتب عليها "العيش والحرية والكرامة"، فضلاً عن ترديد هتافات " لن نستسلم" و"محاكمة حاتم"، في إشارة إلى شخصية "حاتم" أمين الشرطة الفاسد الذي ظهر في فيلم "هي فوضى" وبات أصبح نموذجا للشرطي الفاسد الذي يستخدم البطش. وكانت النيابة العامة قد حفظت التحقيق الذي قدمه الأطباء في السابق، بينما قالت وزارة الداخلية في بادئ الأمر "إن الأطباء لم يتعرضوا لأي اعتداء وأن الأمر لم يتعد مشاجرة بين الأطباء وأمناء الشرطة، وأن الأطباء هم الذين بدأوا بالاعتداء على رجال الشرطة". وإذا لم يتم مثول المتهمين من أمناء الشرطة أمام القضاء قبل ال 26 من شباط/ فبراير الجاري، سيبدأ الأطباء على الفور في تقديم الخدمات الطبية مجانًا للمواطنين في المستشفيات العامة المنتشرة في عموم البلاد، وفق تهديداتهم. ويشار إلى أن احتجاجات الأطباء مخالفة ل "قانون منع التظاهر" الصادر في تشرين ثاني/ نوفمبر 2013، والذي يحظر التجمعات العامة دون الحصول على إذن مسبق من السلطات، وجري حبس الكثير من الناشطين بسببه، بيد أن الشرطة حرصت على عدم التدخل ضدهم واكتفت بغلق الطرق ونشر تجمعات أمنية ضخمة.