أصدرت محكمة النقض المصرية ، أعلى هيئة قضائية مصرية ، حكمها في القضية التي عرفت بمذبحة كرداسة التي وقعت بعد أحداث فض ميدان رابعة وشهدت عنفا واسعا وراح ضحية هذه الأحداث أحد عشر شرطيا من قوة قسم شرطة كرداسة ، استشهدوا بعد أن اقتحم حشد كبير من المتظاهرين للقسم وتم التمثيل ببعضهم في مشهد أثار غضب ملايين المصريين وقتها ، واعتبر الأكثر وحشية في الأحداث التي تلت مذبحة رابعة ، وكانت محكمة الجنايات قد أصدرت حكما بإعدام مائة وثلاثة وثمانين مواطنا اتهمتهم بالتورط في هذه الجريمة ، منهم مائة وتسعة وأربعون حضوريا والباقي غيابي ، فلما طعن المتهمون على الحكم أمام محكمة النقض قضت بإلغاء هذا الحكم تمهيدا لإحالة القضية إلى دائرة أخرى بعد نشر حيثيات الطعن ، ولم يكن هذا الحكم هو الوحيد الذي أسقطته محكمة النقض في الأحكام الأخيرة ، فهناك عشرات الأحكام الأخرى المثيرة التي صدرت بإعدام العشرات بل المئات من المصريين من خلال الدوائر التي عرفت بدوائر الإرهاب ، وهي محاكم خاصة تم تشكيلها أيام "القاضي" عدلي منصور لمحاكمة أنصار مرسي والإخوان بشكل أساس ، ومعظم الأحكام المثيرة للجدل والتي أربكت الدولة المصرية نفسها أمام العالم كانت هي الأحكام التي تصدر من تلك الدوائر تحديدا ، بل إن أحكام القضاء العسكري نفسه لم تثر غضبا عالميا مثلما أثارته أحكام تلك الدوائر . فور صدور حكم النقض بإلغاء أحكام الإعدام في مذبحة كرداسة ، هاجت وسائل إعلام محسوبة على النظام ومحسوبة على الرئيس السيسي والدفاع الدائم عنه ، وهاجمت محكمة النقض برعونة لم تكن متصورة ، وظهرت على شاشات الفضائيات حملة تشهير وقحة ضد محكمة النقض ، وغمز ولمز في قضاتها ، وصلت إلى حد أن اتهمها إعلامي شهير من هؤلاء بأنها "انتصرت للإرهاب" وأن بعض رجال الشرطة يفكرون في الاستقالة من أعمالهم لأن القضاء لا يوجد به عدالة ناجزة وتساءل : أين قضاة مصر المحترمون أين العدل ، وهي إشارات مهينة لقضاة النقض وأحكامهم ، وآخر يقول أن أسلوب التقاضي في مصر لا صلة له بالعدالة ، في تعليقه على أحكام النقض في تلك القضية ، وبدا كما لو كانت هناك هجمة منسقة لإهانة محكمة النقض أو ابتزازها . والحقيقة التي لا ينكرها عاقل أن أحكام محكمة النقض الأخيرة هي التي أعادت الاعتبار للقضاء المصري وسمعته ، وهي التي صححت الصورة بدرجة كبيرة ، وكلنا نذكر كيف كانت الحملات الدولية العاتية على مصر بعد أن حكم قاض بإعدام أكثر من خمسمائة مواطن في جلسة واحدة ، وهو أحد قضاة "دوائر الإرهاب" أيضا ، كما نذكر كيف أن الرئيس السيسي نفسه كان يخرج من الحصار السياسي والديبلوماسي والإعلامي الدولي الطي يواجهه في كل سفراته للخارج في تلك الأحكام ، يخرج منه دائما بقوله أن هذه ليست أحكاما نهائية ، وأن هناك درجات أخرى للتقاضي ستصحح الأمور ، وأن هناك محكمة النقض سيتم الطعن أمامها ، أي أن محكمة النقض كانت حبل الإنقاذ الذي يتعلق به رئيس الدولة ، هروبا من الحرج الذي سببته له بعض الأحكام . والحقيقة أن الجرأة على القضاء ، وخاصة محكمة النقض لم تأت إلا بعد أعطى وزير العدل نفسه الضوء لانتقاد القضاء ومؤسساته ، فهو الذي علق على أحكام القضاء وهو الذي دخل في ملاسنة مع مجلس الدولة أحد أهم أركان مؤسسة العدالة ، وكان الأجدر به أن يكون الجدار الذي يحمي سمعة القضاء وكرامته وهيبته من أن يتطاول عليها أحد ، لكنه انخرط في مسار "تسييس العدالة" وتحدث بصورة فجة أحرجت الدولة المصرية بكاملها والحكومة التي ينتسب إليها عندما تحدث في نفس تلك القنوات التي تهين القضاء عن رغبته في قتل عشرة آلاف شخص أمام كل جندي يقتل ، وأن غليل قلبه لن يهدأ دون قتل أربعمائة ألف مواطن معارض ، فإذا كان وزير العدل نفسه يقول هذا الكلام ويهدر العدالة نصا وروحا ومؤسسات ، فهل ننتظر من الإعلام المؤيد له إلا النسج على منواله . حكم محكمة النقض يتحمل مسئوليته بالأساس الدوائر "المتعجلة" التي أصدرت أحكاما متعجلة ولا تتفق وصحيح القانون ولم تعتمد الإجراءات الصحيحة التي تضمن العدالة الكاملة للمتهمين ، والقضاء لا يثأر ولا يعرف لغة الثأر ، وإنما يعرف لغة العدالة ، الثأر هو لغة عمياء تذهب بأرواح بريئة شفاء لغليل نفوس ، وقد تكون لا صلة لها بما حدث ولا شريكة في أي جريمة ، القضاء معني بالعدالة وليس بالثأر ، أن ينال القاتل عقابه وأن ينال البريئ حريته ، أما أن نأخذ العاطل في الباطل لكي نشفي غليل نفوس البعض ، فهذا يمكن أن نمارسه في أي مكان آخر غير منصة القضاء ، وقد سبق وألغت محكمة النقض حكم مذبحة كرداسة وذكرت في الحيثيات خلو الأوراق من الأدلة الدامغة سوى تحريات الأمن ، وقالت أن تحريات الأمن ليست كافية لإدانة إنسان بالقتل وبالتالي ليست كافية لإعدام بريء ، أو بمعنى آخر لا يمكن أن يضع ضابط شرطة كشفا ويقدمه للقاضي ويقول هؤلاء قتلة والمطلوب إعدامهم ، ولعلنا نذكر أيضا تصريحات رئيس الجمهورية عن تأخر حسم أحكام مذبحة بورسعيد ومحمد محمود وماسبيرو بأنها كانت تشهد جموعا كبيرة ومن الصعب تحديد الاتهامات بسرعة ، فلماذا تكون مذبحة كرداسة استثناءا من هذا المنطق ، وسنظل نتمسك بحق الوطن كل الوطن في أن ينال القتلة عقابهم ، لترتاح نفوس أبنائهم وذويهم بأن دمهم لم يذهب هدرا ، سواء كانوا من أبناء الشرطة أو الجيش أو الشعب. لا أملك أن أقدم التحية لمحكمة النقض على صلابتها وانحيازها للعدالة في ظل هذه الهجمة المروعة والفاشية التي تعصف بمصر ، لا أملك أن أحييها رغم اعتزازي وفخري كمصري بدورها ، لأن هذه رسالتها ، وأرجو من كل وطني مخلص أن يحمي شرف هذه المحكمة العريقة ، فهي من آخر ما تبقى من قلاعنا التي اجتاحتها الفاشية الجديدة .