انتشر فى الآونة الأخيرة منهج الدكتور سعد الدين الهلالى، الذى يرى أنَّ الأمانة العلمية تقتضى إيراد جميع الأقوال الفقهية الواردة، تاركًا للسائل حرية الاختيار مِن بين هذه الأقوال؛ إلا إذا طالبه السائل بالترجيح أو سأله عن الصحيح مِن بين هذه الأقوال، فهنا يقوم مقام الناصح، ينصح للسائل بأحد هذه الأقوال. وقد أكَّد الدكتور التزامه بهذا المنهج مناسبات عديدة، منها: حواره قبل فترة مع الشيخ أمجد غانم، وسأجمل التعقيب على هذه المنهجية فى النقاط الآتية: أولا: الحق واحدٌ لا يتعدَّد: وقد وضح الدكتور نفسه بين حالتين: الأولى: أن يرى بعض هذه الأقوال التى يذكرها حقًّا صوابًا والآخر باطلا مرجوحًا فيكون قد خالف الأمانة العلمية التى تُلزمه ببيان الباطل المرجوح للناس حتى وإِنْ لم يسألوه؛ لأن السائل لو مَيَّزَ بين الحق والباطل لانتفت حاجته إلى سؤال الدكتور؛ وإنما يُتَصَوَّر فى السائل الجهل بحكم المسألة، ولهذا يلجأ للسؤال، فهو بحاجة إلى بيانٍ، وقد قرَّر أهل العلم عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ فيكون الدكتور بهذا قد ناقض الأمانة العلمية إنْ لم يذكر الجواب موضِّحًا الحق من الباطل. والحالة الثانية: أن يرى الدكتور جميع الأقوال التى يذكرها فى المسألة الواحدة حقًّا فيكون قد وافق المعتزلة القائلين بتعدُّد الحق، وخالف أهل السنة والجماعة ومَن وافقهم مِن القائلين بأنَّ الحق واحدٌ. قال ابن عبد البر فى «الجامع» (ص919): «وفى رجوع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعضهم إلى بعضٍ وردِّ بعضهم على بعضٍ؛ دليلٌ واضح على أنَّ اختلافهم عندهم خطأ وصواب» أه. إلى أن قال: «والصواب مما اختُلِف فيه وتدافع وجهٌ واحدٌ؛ ولو كان الصواب فى وجهين متدافعين ما خَطَّأَ السلفُ بعضُهم بعضًا فى اجتهادهم وقضاياهم وفتواهم، والنظر يأبى أن يكون الشىء وضدّه صوابًا كله» أه. وذكر ابن عبد البر طائفة من أقوال الصحابة والتابعين الدالة على هذا، ومنها: قول عمر بن الخطاب لأبى موسى الأشعرى رضى الله عنهما: «لا يمنعك قضاءٌ قضيتَه بالأمس، راجعتَ فيه نفسك، وهُدِيت فيه لرشدك؛ أنْ ترجعَ فيه إلى الحق؛ فإِنَّ الحق قديم، والرجوع إلى الحق أولى من التمادى فى الباطل»أه. وقول مُطَرِّف بن الشِّخِّير: «لو كانت الأهواء كلها واحدة لقال القائل: لعل الحق فيه؛ فلما تشعَّبت وتفرّقت؛ عرف كلُّ ذى عقل أنّ الحق لا يتفرّق»أه. ونقل عن أشهب قال: «سمعتُ مالكًا رحمه الله يقول: ما الحق إلا واحد، قولان مختلفان لا يكونان صوابًا جميعًا، ما الحق والصواب إلا واحد. قال أشهب: وبه يقول الليث» أه. وروى ابن عبد البر (ص/905) عن أشهب قال: «سُئل مالك عن اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: خطأٌ وصواب، فانظر فى ذلك»أه. و(ص/906) عن ابن القاسم عن مالك أنه قال فى اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مخطئٌ ومصيب، فعليك بالاجتهاد» أه. ثم روى عن عبد الله بن وهب قال: قال لى مالكٌ: «يا عبد الله! أَدِّ ما سمعتَ وحسبك، ولا تحمل لأحد على ظهرك، واعلم أنما هو خطأ وصواب، فانظر لنفسك فإنه كان يقال: أخسر الناس من باع آخرته بدنياه، وأخسر منه من باع آخرته بدنيا غيره»أه. وروى ابن عبد البر (ص/906) عن ابن القاسم قال: «سمعتُ مالكًا والليث يقولان فى اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس كما قال ناسٌ: فيه سعة؛ ليس كذلك؛ إنما هو خطأٌ وصواب»أه. ونقل نحوه عن كتاب «المبسوط» لإسماعيل بن إسحاق القاضى، ثم نقل عن إسماعيل قوله: «إنما التوسعة فى اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توسعة فى اجتهاد الرأى، فأما أن يكون توسعة لأن يقول الناس بقول واحدٍ منهم من غير أن يكون الحق عنده فيه؛ فلا، ولكن اختلافهم يدل على أنهم اجتهدوا فاختلفوا» قال ابن عبد البر: «كلام إسماعيل هذا حسنٌ جدًّا. وفى سماع أشهب سُئل مالك عمَّن أخذ بحديثٍ حدَّثَه ثقةٌ عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتراه مِن ذلك فى سعة؟ فقال: لا والله حتى يصيب الحق، وما الحق إلا واحد، قولان مختلفان يكونان صوابًا جميعًا؟! وما الحق والصواب إلا واحدٌ» أه. [email protected]