قلت لصديق صحفي وكاتب مثقف هل قرأت مقال الدكتور حازم عبدالعظيم؟. قال لي، نعم. قلت له، وما تقييمك؟. قال في هذه الفترة الأمور ضبابية، ولا نعرف طبيعة التوجهات، ولا حقيقة المواقف، ولا الأدوار التي يلعبها ويتبادلها البعض. قلت له، أي تنصح بألا ننخدع بشجاعة موجهة، أو ببطولة مصنوعة، أو بكلام هو في جوهره مزيف، أو بأن هناك أصواتا تعلو منتقدة للأوضاع، كاشفة لبعض خفايا ما يجري في الغرف المغلقة، وتقدم نفسها شاهدا ومصدر معلومات مختزنة، أو بمعارضة مستأنسة، تكون في خدمة صانعيها، وتعمل وفقا لما هو مرسوم لها، ليبدو أن هناك الرأي والرأي الآخر، قال صديقي نعم، أوافقك. حتى تتبين حقيقة ما كتبه حازم عبدالعظيم، وينجلي الصدق من الخداع في أمره، نذهب إلى نموذج يتعلق بما نقوله هنا، وهو الإعلامي الدكتور توفيق عكاشة وحواره قبل أيام مع فضائية "أون تي في"، وقد لفت انتباهي إثارة هذا الحوار للجدل، وكثرة الأخبار والفيديوهات والتعليقات المتداولة بشأنه، ومضمونها أنه يهاجم السلطة والأجهزة، وأنه يقلب الطاولة، ويكشف معلومات مهمة، ويبدي آراء شجاعة، أي كما لو كان تحول إلى زعيم المعارضة بعد فوزه الكاسح بعضوية البرلمان، محققا رقما قياسيا في التصويت له، "94 ألف صوت". أخذت الأمر في بدايته بعدم اكتراث، لأنه معروف ارتباطه بشكل وثيق بالأجهزة والسلطة، وهو أحد الأذرع المستأمنة والمرضي عنها، ويحق له أن يقول ويفعل ما لا يقدر غيره من نفس فريق الموالاة أن يقوله أو يفعله، وهذا ما قاله زميله في نفس الصف الأستاذ عمرو أديب، "أنتم متخيلين إن أنا أقدر أعمل اللى عمله توفيق عكاشة؟، أو أتكلم ربع اللى اتكمله عكاشة". يصعب أن يحدث تغيير فجائي هكذا بين عشية وضحية للأشخاص داخل معسكرات الحكم في أي بلد، بل لا يُسمح بمثل هذا التغيير الدراماتيكي، الأمور ممسوكة جيدا، وهناك ما قد يكون ممسوك أيضا، لكن يمكن أن يُسمح ببعض التحركات في إطار هدف معين، ولذلك ذهبت لأشاهد الحلقة حديث الناس والإعلام على "يوتيوب"، ورغم أنها لم تتضمن أفكارا عميقة، لكنها تضمنت اعترافات مثيرة قيمتها أنه هو قائلها بأسلوبه البسيط في الحكي، مع ذلك يتريث الإنسان طويلا أمام ما يُقال من أشخاص لهم ارتباط وثيق بالسلطة وأركانها، فهم لسانها وخير معبر عنها سواء بتوجيه، أو من أنفسهم، فنحن لم نصل بعد إلى مستوى الفضاء السياسي والإعلامي الحر في بلد مثل ألمانيا التي شدد عكاشة على أنه سيطلب الهجرة إليها، ثم هو نفسه من يقول بعد ذلك "أنا ولا مهاجر ولا منيل وزمان أمي عمالة تشتم فيّ دلوقتي"، وبالفعل كانت شكوكي في محلها حيث لم يمض وقت طويل حتى خرج عكاشة ليعتذر عن كل ما قاله ويمس أجهزة أو قيادات، مؤكدا أنه كان يقوم بخطة من أجل حماية مصر، "اختبرت الدولة خلال الأيام الماضية بتقمصي شخصية العدو، أنا لا أناقض نفسي، وارتضيت أن أتحمل أي شيء حتى لا يحدث للوطن كبوة كما حدث في 25 يناير، اعتذر لكل اللي هاجمتهم من القيادات والأجهزة، أنا آسف لكن الخطة كانت كده، فنحن عشنا واقعا لابد أن نستفيد منه لنقف يدًا واحدة". قبل أن يخرج معتذرا، ناسفا كل ما قاله، كنت قد سجلت هذه النقاط فور مشاهدة الحلقة على الإنترنت. أولا: واضح أن هناك مشكلة شخصية من عكاشة تجاه وزير الداخلية بسبب القبض عليه لتنفيذ حكم قضائي، فقام بتصفية حساباته معه. ثانيا: واضح أن هناك مرارة شخصية من عكاشة تجاه اللواء عباس كامل مدير مكتب الرئيس السيسي بسبب أنه لم يتدخل لإنقاذه من الحبس، ومدة الحبس في القضية التي لجأ فيها ل كامل كانت عدة أيام، وحصل على براءة في الاستئناف، وتم الإفراج عنه، ربما ما حصل معه آنذاك كان "قرصة أذن"، وهى قضية تتعلق بخلاف شخصي، وليست ذات طابع سياسي. ثالثا: حديثه عن دور الأمن الوطني، والمخابرات في الانتخابات، وفي صناعة القرار، وعن الدولة التي تُدار بفكر أمني، وغياب السياسة كلام متداول في بعض وسائل الإعلام، ربما الجديد أن يكون عكاشة هو مصدر هذا الكلام باعتباره من أصوات النظام، ومن يسمعه ولا يعرفه سعيتقد أنه من معارضي النظام، أو إعلامي في معسكر الإخوان، أو من كوادر الإخوان. وقد سجلت أيضا أنه في سياق الحوار خرجت بعدة مواقف لافتة: 1 - حديثه عن التسريبات الشهيرة "المزعومة" الخاصة بمكتب اللواء عباس كامل مدير مكتب السيسي حينما كان وزيرا للدفاع حيث ألمح إلى صحتها - قبل أن يتراجع سريعا، تحت ضغط حصار أسئلة محاوره له، ويطلب نفي النيابة لها أو تأكيدها - عندما استشهد بتواصل كامل مع النائب العام للبحث عن مخرج لنجل الكاتب محمد حسنين هيكل من مسألة المنع من السفر، وكان بذلك يدلل على إمكانية تدخل كامل لإنقاذه من الحبس أيضا بدل عدم الرد على اتصاله، وتجاهل الرسالة التي بعث بها إليه على المحمول. 2 - قوله إنه كان مضحوكا عليه في بعض المواقف التي كان يتخذها، ثم يتبين له اليوم عدم صحتها. 3 - قيامه بشن هجوم على اللواء سامح سيف اليزل، وواضح أنه كان يأمل في دور بارز في تشكيل التحالفات داخل البرلمان، لكنه وجد أن اليزل سيكون رجل البرلمان الأبرز ومحركه، علاوة على إفشال مساعيه لتشكيل كتلة برلمانية يتزعمها. وقد ختمت ما سجلته وقبل اعتذاره بإثارة عدة تساؤلات هى: هل ما قاله مجرد زوبعة مقصودة لإشغال الناس في أمور فرعية عن قضايا أساسية؟، وهنا نستدعي دوما رسالة الفيلم الرائع "الهروب" للثلاثي أحمد زكي، ومصطفى محرم، وعاطف الطيب؟. هل انتقاداته وسيلة لإيهام الرأي العام بوجود أصوات معارضة من داخل بيت السلطة؟. هل يقوم بهذا الدور لامتصاص بعض الغضب والتخفيف والتنفيس عن جانب من الاحتقان لدى بعض الفئات؟. ثم لا حقا يعتذر عما قاله، ومع ذلك وفي إطار لعبة الشكوك وفي أجواء الإثارة تلك، نسأل: هل يعتذر من كان يقوم بخطة؟، ولماذا كل تلك البلبلة إذا كانت هناك خطة للقيام بدور ما متفق عليه، أم أنها خطة من تدبيره هو شخصيا ودون عرضها على أحد؟، وما الداعي لتقمص شخصية العدو لاختبار الدولة، وإدخال نفسه في متاهات، وإعلان مواقف قد يترتب عليه حدوث أضرار له؟، وربما قرار مدينة الإنتاج الإعلامي بمنعه من تقديم برنامج "مصر اليوم" جاء في سياق تلك الأضرار، لكنه ظهر لا حقا في حلقة الاعتذار، أم أنه كان جادا فعلا في حديثه، وفي إظهار غضبه وألمه، لكن تم الطلب منه الخروج للاعتذار، وإلا فالعواقب ستكون وخيمة؟. في غياب شفافية السياسة، والإعلام المستقل، وندرة المعلومات، لا أحد يدري ما يحدث، ولا لماذا يحدث؟. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.