لم يكن مبارك وعائلته ورجال حكمه يدور فى أذهانهم فى يوم من الأيام أن تنتهى سنوات حكمهم التى شارفت الثلاث عقود وقد أصبحوا قيد السجن ووراء القضبان وأن الدنيا التى طالما أضحكتهم قد أبانت لهم عن وجهها الآخر الكالح المظلم . وأن السجن الذى كان علامة بارزة على سنوات حكمهم سيصبح منزلهم الأخير . بل لعل آخر من كان يتوقعونه أن يصبح ضحاياهم من التيار الإسلامى الذين تعرضوا لأكبر حملة انتهاكات وتعذيب فى عصرهم على بعد خطوات من الحكم بعد التقدم الكبير الذى حققوه فى الانتخابات البرلمانية والتى جعلتهم يغردون بمفردهم خارج السرب، الأغلبية فى مما يؤهلهم للصدارة على الساحة السياسة فى الفترة المقبلة. وبالتزامن مع هذا الصعود لقوى الإسلام السياسى بدأ السؤال المسكوت عنه يطرح نفسه بل ويطرحه آخرون أيضًا هل يتجه التيار الإسلامى للثأر من مبارك ورجاله وأجهزته الأمنية؟ خاصة فيما يتعلق بعمليات الاعتقال والتعذيب غير القانونية التى مارسها النظام البائد ضدهم خاصة أن أصابع الاتهام تشير بقوة إلى تورط فلول الوطنى المنحل فيما يشهده المجتمع المصرى من عنف وتخوين وانعدام استقرار سياسى وأمنى أم أن شعار الصفح والعفو سيكون هو شعار المرحلة القادمة؟ انطلاقًا من قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لأهل مكة : " اذهبوا فأنتم الطلقاء " سؤال توجهت به المصريون لأصحاب الشأن والمتابعين. فمن ناحيته استبعد الدكتور محمود غزلان، عضو مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان والمتحدث الرسمى باسمها، وجود نية لتصفية الحسابات مع فلول النظام السابق، وقال: حقنا نتركه على الله..لكن حق المجتمع يتولاه القضاء، وعن المساءلة عن عمليات التعذيب التى ارتكبها رجال الأمن أكد "غزلان" أنها أمر شخصى يرجع لكل فرد تعرض لهذه الممارسات، موضحًا أن لهم مطلق الحرية فى الصفح والعفو أو التقدم ببلاغات ضد الأشخاص الذين عذبوهم..وهم معروفون بالاسم، ونفى غزلان أن يكون للإخوان المسلمين موقف جماعى من هذا الأمر، معتبرًا أنه ليس الإخوان فقط تعرضوا لمثل الأفعال ولكن هناك تيارات إسلامية أخرى تعرضت لمثل الانتهاكات، مذكرًا أنه فى عام 1954 كان النظام يعذب الإخوان لدرجة الجنون أو الموت..ورغم ذلك لم يقم واحد منهم بالانتقام لنفسه بعد الخروج من السجن، علمًا بأنهم كانوا يروون هؤلاء الجلادين فى الشوارع. وعن سيناريو تطبيق عقوبات اجتماعية وسياسية على الفلول أوضح "غزلان" أن هذا الأمر متروك للمجتمع، وأنه يكفى نظرة المجتمع إليهم وإلى جرائمهم وإفسادهم الذى فعلوه، مؤكدًا على عدم السماح لهم بالمشاركة فى الحكم الفترة المقبلة قائلا إن هذا غير وارد على الإطلاق. وفيما يتردد عن ضلوع رجال النظام الساقط فيما يتعرض له المجتمع من موجات عنف أكد "غزلان" أنه لا يملك دليلاً يقينيًا على ذلك، وإن كانت كل الاحتمالات واردة.. سواء كان المحرضون من داخل السجون أو رجال الأعمال أو حتى من الخارج. إذا كانت ثقافة الأخذ بالثأر غير موجودة فى أدبيات جماعة الإخوان المسلمين..فهل ينطبق نفس الموقف على التيار السلفى أم هناك رأى آخر؟!. يقول الدكتور يسرى حماد، المتحدث الرسمى باسم حزب النور السلفى، عند ما نتحدث عن شرع الله نتذكر قول الله تعالى "لا تثريب عليكم اليوم"..فليس من عادتنا أو من شيم الإسلام الانتقام للنفس، موضحًا أنه تم التضييق على رجال الدعوة السلفية فى الوظائف وفى الحريات حتى الحركة فى الشوارع، وسرعان ما انتهى بمجرد أن الله أعاد لنا حريتنا التى خلقنا عليها، مضيفا أن هناك دولة قانون وفى حالة الاعتداء على الأملاك والأموال العامة لابد من المحاسبة والمساءلة طبقًا للقانون. ومن باب العفو قال حماد " حتى لو عفونا عن حقوقنا.. لكن حقوق المجتمع لن تسقط عند الله"، ولكن حقوقنا متنازلين عنها تمامًا وهذا واضح من موقف السلفية، مؤكدًا عدم وجود دعوة واحدة تطالب بالتعويض برغم ما تعرض له السلفيون من اعتقال مطلق بدون اتهام أو محاكمة ، وتابع "حماد" من ارتكب مخالفات وتجاوزات فى العهد القديم لابد من محاسبته، وفى العهد الجديد سينطبق ذلك على من حاول مرة أخرى حتى لو أفلت من العقاب بسبب عدم ثبوت الدليل عليه فى المرة الأولى، وشدد على عدم الاشتراك والاستعانة فى البناء بمن أفسد أو ساهم فى الإفساد. وبالنسبة لمسألة القصاص الشرعى من الفلول المتهمين بالقتل أشار "حماد" إلى استحالة تطبيقه وأن المحاكمة تتم عن طريق القانون المصرى، مضيفًا أن دورهم سينحصر فى المطالبة بتسريع المحاكمات كمطلب شعبى عام وليس من قبيل الانتقام والتشفى، لافتا إلى أن رجال النظام السابق لهم اليد العليا فيما يدور فى مصر الآن من زعزعة..ولكن سرعان ما ينتهى بانتخاب رئيس شرعى. لم يبتعد موقف الأحزاب السياسية كثيرًا عن موقف تيار الإسلام السياسى حول فكرة الثأر والانتقام من الفلول، فالمصلحة العامة كانت عاملا مشتركًا فى وجهة نظر الطرفين لذا يؤكد توحيد البنهاوى – القيادى بالحزب العربى الناصرى على حاجة مصر لرؤية وبرنامج تنموى وليس تشفى وشماتة..فى ظل تحقيق الأغلبية المنتخبة من التيار الإسلامى باختلاف فصائله، وحذر من الانصراف لتصفية المواقف قائلا " فى هذه الحالة البلد هتخرب"، موضحًا أن الوضع يحتاج إلى برنامج سياسى واجتماعى وليس دينيًا، وعلق البنهاوى على مسألة الانتقام قائلا " إن لم يكن هناك الصفح والسماح..فلم يكن هناك مستقبل". فى تلك المعادلة..لم نغفل وجود أنصار ومؤيدى النظام السابق بما يحملون من وجهات نظر ومواقف حتى ولو كانت دفاعية فقط، حيث أوضح الدكتور جمال الزينى – عضو لجنة السياسات بالحزب المنحل - أن مصر لا تحتمل أى نوع من الخلافات أو التناحرات الجديدة ، وتحتاج لتضافر كل الأطياف والقوى السياسية، قائلا إن الانتخابات الجارية منزوعة السياسة..لكن فى كل الأحوال الصندوق الانتخابى هو الفيصل..وهذا يلقى بمسئولية ثقيلة على التيار الإسلامى بعد وصوله لصدارة الحكم، واعترف الزينى أن الإسلاميين كانوا يتعرضون لكافة أشكال الاضطهاد والتعذيب وهم قوى سياسية موجودة منذ أكثر من 80 عام، لكن الآن يبقى على التيار الإسلامى أن يكون إسلاميًا بمعنى الكلمة، لأن ديننا لا يدعو إلى التشفى والانتقام، وبعث برسالة إلى الإسلاميين بأن تصفية الحسابات ليس لها أول ولا آخر.. ومن عانى من شىء لا يجب أن يطبقه على الآخرين. وأضاف الزينى أن الإسلاميين إذا تفرغوا للثأر من رجال النظام السابق دون سند قانونى فسيبقى هذا الإجراء بمثابة الصعود إلى الهاوية، خاصة أن الشارع يفتقد إلى ثقافة الحوار والاختلاف وشجاعة الاعتذار، موضحًا أن مصر ليست ملكاً لفصيل الإخوان وحدهم أو الليبراليين فقط ولكن جميع القوى والفصائل والثقافات التى تعيش على أرضها، ويحذر الزينى من الرضوخ لشهوة التشفى والثأر على حساب مصر كلها..مؤكدًا أنه لا يوجد أحد يسمح بذلك فيها. وتعليقًا على الأحداث الحالية التى تمر بها مصر..قال الزينى " لا أستبعد أى شىء..وأنا ضد إطلاق مصطلح الطرف الثالث، وعلى المجلس العسكرى والحكومة إظهار الحقيقة حتى لو كان المخربون أتوا من السماء،خاصة أن هناك أطراف خيوط وتسجيلات صوت وصورة للوصول إلى الفاعل الحقيقى..سواء من داخل الزنزانة أو خارجها. كان لابد فى نهاية جولتنا من الاقتراب من الظاهرة من وجهة نظر علم الاجتماع السياسى ليقول كلمته بشكل علمى غير متحيز بعيدًا عن الأيديولوجيات الدينية والسياسية. من هنا يؤكد الدكتور أحمد زايد، أستاذ علم الاجتماع السياسى بجامعة القاهرة ، أن الديمقراطية ليس فيها ثأر ولا تصفية حسابات لأنها مسميات غير ديمقراطية، ونحن بصدد دولة ديمقراطية وليست تسلطية كما كانت.. ومن هنا فإنه ينبغى التخلى عن تلك المفاهيم. وأضاف "أعتقد التيار الإسلامى لايفعل ذلك، لأن السماحة من سمات الدين الإسلامى والتنازل فى وقت القوة والمقدرة.. كما فعل النبى محمد صلى الله عليه وسلم عند فتح مكة مع الكفار وقال لهم "اذهبوا فأنتم الطلقاء". كما استبعد "زايد" لجوء الإسلاميين لتلك الثقافة لأنهم حريصون على عدم الدخول فى عداء مع أحد، ومن هذا المنطلق أكد أن الإخوان المسلمين يحتاجون إلى إعادة تعريف كلمة "الإخوان" من جديد، لأنها تقسم الشعب إلى قسمين فى ضوء التحول الديمقراطى الذى نشهده، بحيث يشمل مصطلح الإخوان جميع طوائف المجتمع، ويكون الإخوان فى المجتمع كله وليس جماعة دينية أو حزبية فقط..وهنا يتحقق الاحتواء لكل المجتمع.