وزير الداخلية الإيراني: هبوط اضطراري لطائرة هليكوبتر ضمن موكب الرئيس إبراهيم رئيسي    سعر الدولار اليوم الأحد 19 مايو 2024 مقابل الجنيه المصري ختام التعاملات البنكية    «خطة النواب» توافق على اعتماد إضافي للموازنة الحالية بقيمة 320 مليار جنيه    هيئة الاستثمار تتيح استخراج شهادة عدم الالتباس وحجز الاسم التجاري إلكترونياً    جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا تتصدر تصنيف التايمز العالمى للجامعات الناشئة لعام 2024 وتحقق نجاحات محلية وإقليمية ودولية    الدفاع الروسية: مقتل نحو 1900 عسكري أوكراني خلال الساعات ال24 الماضية    رمضان صبحي يقود تشكيل بيراميدز في مواجهة الإسماعيلي بالدوري    توجيهات البنك المركزي السعودي بشأن مواعيد عمل البنوك خلال عيد الأضحى 2024    اليوم في ختامي نوادي المسرح.. عرض «سوء تفاهم» و«هاللو فوبيا» بقصر ثقافة روض الفرج    الأربعاء.. عرض فيلمي «فن القلة» و«فن العرايس» بمركز الثقافة السينمائية    أزمة الدولار لا تتوقف بزمن السفيه .. مليارات عيال زايد والسعودية وصندوق النقد تتبخر على صخرة السيسي    منها مزاملة صلاح.. 3 وجهات محتملة ل عمر مرموش بعد الرحيل عن فرانكفورت    إنجاز قياسي| مصر تحصد 26 ميدالية في بطولة البحر المتوسط للكيك بوكسينج    رئيس «قضايا الدولة» ومحافظ الإسماعيلية يضعان حجر الأساس لمقر الهيئة الجديد بالمحافظة    عاجل.. براءة متهم من قتل سيد وزة ب "أحداث عنف عابدين"    تسلق السور.. حبس عاطل شرع في سرقة جهاز تكييف من مستشفى في الجيزة    «الجوازات» تقدم تسهيلات وخدمات مميزة لكبار السن وذوي الاحتياجات    إهداء درع معلومات الوزراء إلى رئيس جامعة القاهرة    عاطف أبو سيف: إسرائيل تعمدت نفينا خارج التاريخ    مصطفى قمر يتألق بأغانيه في حفل زفاف نجلة سامح يسري.. صور    «يا ترى إيه الأغنية القادمة».. محمد رمضان يشوق جمهوره لأغنيته الجديدة    طلاب مدرسة التربية الفكرية بالشرقية في زيارة لمتحف تل بسطا    «الإفتاء» توضح حكم حج وعمرة من يساعد غيره في أداء المناسك بالكرسي المتحرك    الجبالى مازحا: "الأغلبية سقفت لنفسها كما فعلت المعارض وهذا توازن"    نصائح وزارة الصحة لمواجهة موجة الطقس الحار    وزير الصحة: تقديم القطاع الخاص للخدمات الصحية لا يحمل المواطن أعباء جديدة    «صحة المنيا» تنظم قافلة طبية مجانا في قرية أبو سيدهم بمركز سمالوط    أسرة طالبة دهس سباق الجرارات بالمنوفية: أبوها "شقيان ومتغرب علشانها"    مركز الأزهر العالمى للفتوى الإلكترونية يوضح أنواع صدقة التطوع    "علشان متبقاش بطيخة قرعة".. عوض تاج الدين يكشف أهمية الفحوصات النفسية قبل الزواج    خالد عباس: إنشاء وإدارة مرافق العاصمة الإدارية عبر شراكات واستثمارات عالمية    إعلام إسرائيلي: اغتيال عزمى أبو دقة أحد عناصر حماس خلال عملية عسكرية في غزة    «المريض هيشحت السرير».. نائب ينتقد «مشاركة القطاع الخاص في إدارة المستشفيات»    وزيرة الهجرة: مصر أول دولة في العالم تطلق استراتيجية لتمكين المرأة    إيرادات فيلم السرب تتخطى 30 مليون جنيه و«شقو» يقترب من ال71 مليون جنيه    وزارة الإسكان تخطط لإنشاء شركة بالشراكة مع القطاع الخاص لتنشيط الإيجارات    3 وزراء يشاركون فى مراجعة منتصف المدة لمشروع إدارة تلوث الهواء وتغير المناخ    10 نصائح للطلاب تساعدهم على تحصيل العلم واستثمار الوقت    موعد انعقاد لجنة قيد الصحفيين تحت التمرين    رئيس الأغلبية البرلمانية يعلن موافقته على قانون المنشآت الصحية    وزير العمل: لم يتم إدراج مصر على "القائمة السوداء" لعام 2024    مساعدون لبايدن يقللون من تأثير احتجاجات الجامعات على الانتخابات    أول صور التقطها القمر الصناعي المصري للعاصمة الإدارية وقناة السويس والأهرامات    ياسر إبراهيم: جاهز للمباريات وأتمنى المشاركة أمام الترجي في مباراة الحسم    مدينة مصر توقع عقد رعاية أبطال فريق الماسترز لكرة اليد    حجازي يشارك في فعاليات المُنتدى العالمي للتعليم 2024 بلندن    ياسين مرياح: خبرة الترجى تمنحه فرصة خطف لقب أبطال أفريقيا أمام الأهلى    ضبط 100 مخالفة متنوعة خلال حملات رقابية على المخابز والأسواق فى المنيا    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأحد 19-5-2024    سعر السكر اليوم.. الكيلو ب12.60 جنيه في «التموين»    ضبط 34 قضية فى حملة أمنية تستهدف حائزي المخدرات بالقناطر الخيرية    ولي العهد السعودي يبحث مع مستشار الأمن القومي الأمريكي الأوضاع في غزة    حقيقة فيديو حركات إستعراضية بموكب زفاف بطريق إسماعيلية الصحراوى    إصابات مباشرة.. حزب الله ينشر تفاصيل عملياته ضد القوات الإسرائيلية عند الحدود اللبنانية    مدرب نهضة بركان: نستطيع التسجيل في القاهرة مثلما فعل الزمالك بالمغرب    بعثة الأهلي تغادر تونس في رحلة العودة للقاهرة بعد التعادل مع الترجي    عماد النحاس: وسام أبو علي قدم مجهود متميز.. ولم نشعر بغياب علي معلول    الأزهر يوضح أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإهمال يضرب مستشفيات الأمراض العقلية
(تحقيق استقصائي)
نشر في المصريون يوم 12 - 11 - 2015

فى بنها.. الحمامات "بلدى" غير نظيفة والمرضى بالطابور
وفى العامرية.. سيارة الإسعاف بدون أى تجهيزات.. وعجز فى أجهزة رسم القلب والأشعة والضغط وسراير المرضى وسخانات المياه
ظاهرة بقاء المرضى بالمستشفيات حتى بعد علاجهم لعدم توافر مأوى وغذاء بالخارج
رئيس جمعية مكافحة الإدمان: مراكز علاج الإدمان منتهى الفوضى.. وحقيقتها "الاتجار بالمدمنين"
تجارب الفنان سمير الإسكندرانى والدكتور سلام نموذج للنهوض بالمستشفيات النفسية

دفتر أحوال مستشفى بنها
فى اليوم التالى قررت الأسرة الذهاب بمريضها إلى مستشفى بنها للأمراض النفسية، وذهبت معهم وكانت الرحلة أقل مشقة، إذ أن المستشفى بجوار كلية العلوم بجامعة بنها، وفى منطقة شبه مأهولة بالسكان.
سور المستشفى الخارجى أشبه بأسوار السجون، داخل المستشفى المبنى الذى وصلنا إليه، وهو عبارة عن ثلاثة طوابق بخلاف الطابق الأرضى والمخصص للعيادة والاستقبال وغيرها، بينما تتواجد الإدارة فى الطابق الأول ثم طابق مخصص للرجال، والطابق الأعلى للنساء، إذ سمعنا أصوات زغاريد ثم سكون ثم "صوات" أى عويل لنساء تصدر من هذا الطابق، وهى أصوات تصيب بالرعب لمن يسمعها لأول مرة.
داخل المستشفى توجهنا إلى حجرة مديرة المستشفى الدكتورة وفاء عبد الباسط والتى عاملتنا بلطف، وأكدت على الاهتمام بالحالة بشرط أن يكون المريض لديه رغبة حقيقية فى العلاج، وقابلتنا بالدكتور عمرو نائب المدير، وطلبوا عمل تحاليل بالمستشفى على نفقة أسرة المريض، وبعدها تمت إحالة المريض إلى لجنة طبيب شارك فيها الدكتور أحمد سمير والدكتورة وفاء عبد الباسط وإخصائى اجتماعى، وطلبوا أن يكون بمفرده أمام اللجنة.
أثناء اللجنة تعرفنا على بعض المعلومات من أحد المصادر، ومنها أن العنبر يضم 45 سريرا شبه متلاصقة، وأن بعض المرضى يفضلون النوم على البلاط هربًا من تأثر المراتب الإسفنجية المستعملة طويلاً بالحرارة، التهوية سيئة بسبب الأبواب والشبابيك الحديدية وعدم وجود مراوح، الحوائط بها شروخ والبياض به قشور، الحمام "بلدى" مشترك ويصطف أمامه طابور من المرضى، وكان طبيعيًا أن تنبعث الروائح الكريهة من العنبر.
ورغم هذا القصور خاصة أنه لا يوجد علاج اقتصادى بل مجرد مبلغ رمزى، إلا أن وجبات الطعام معقولة وقد صادفنا وقت الغذاء وعلمنا أنه عبارة عن أرز وخضار وقطعة من اللحم.
ما لفت انتباهنا وجود شخص يحمل دفترًا أقرب إلى سجلات رسمية للمستشفى أو "دفتر أحوال"، علمنا أنه ليس موظفًا بالمستشفى، بل هو نزيل قديم فى المستشفى وهو حاصل على مؤهل، ولأنه بلا مأوى بالخارج استمر وجوده بالمستشفى، وهو حالة متكررة فى معظم مستشفيات الأمراض العقلية.
انتهت اللجنة من المقابلة، وقررت الموافقة على احتجاز المريض بالمستشفى للعلاج، واتخاذ الإجراءات لعمل ملف له، مع دفع الأسرة مبلغًا بخزينة المستشفى، وهو مبلغ زهيد قدره 100 جنيه فقط عن كل شهر.. ورغم أن المستشفى ليس أحسن حالاً من مستشفيات حكومية أخرى، إلا أن الأسرة وافقت على حجزه به، خاصة لقربه من مسكنهم، والاطمئنان إلى من التقينا بهم من أطباء المستشفى.
زيارة للمعمورة
قررت زيارة مستشفى خارج القاهرة الكبرى للتعرف على أحوال مستشفيات الأمراض النفسية خارج العاصمة، ومن ثم قمت بزيارة مستشفى المعمورة للأمراض النفسية بمنطقة طريق الملاحة والرأس السوداء بالإسكندرية.
المنطقة الواقع بها المستشفى كانت حتى سنوات قليلة وتحديدا حتى ثورة يناير 2011 خالية تماما، إذ أن الأرض المحيطة بها ملك للأوقاف، إلا أنه تم الاعتداء عليها، بل تم بناء أبراج تناطح السماء وبارتفاعات غير مسموح بها على الإطلاق.
على باب المستشفى، جاءت مصادفة طريفة، إذ ظنت أو تخيلت إحدى كبار الممرضات أننى كنت طبيبا بالمستشفى فرحبت بى بشدة، قائلة: "أهلا بك يا دكتور نورت المستشفى.. وتركتنى مسرعة إذ يبدو أنها كانت على عجلة لإنهاء بعض الأعمال، وربما كانت هذه المصادفة العجيبة فى تسهيل استجابة الأمن للدخول وتوصيلى حتى حجرة مدير المستشفى".
لم يكن الدكتور محمد عثمان حفظى الذى اتصلت به قبل زيارتى بيومين موجودا، إذ علمت من نائب المدير الدكتور عادل سامى جندى أنه توجه إلى وزارة الصحة بالقاهرة لحضور اجتماع عاجل.
سألت الدكتور عادل سامى جندى نائب المدير واستشارى أمراض المخ والأعصاب والطب النفسى عن رعاية المرضى وإمكانيات المستشفى، وكان الرجل صريحا ولطيفا، إذ قال عن رعاية المرضى إن المستشفى به 948 سريرا - وهو تعبير عن عدد المرضى المحتجزين، وإن معظم الحالات تتحمل الدولة تكاليف علاجها بما نطلق عليه الخط الساخن لمجلس الوزراء، وإن العلاج من الإدمان بمقابل ولكنه معقول، ومن حق المريض مغادرة المستشفى فى أى وقت يشاء.. أما عن الحالات الملفتة للنظر، فمنها فتاة كانت تعمل بالإمارات واحترفت الإدمان وجاءت للحجز بالمستشفى للعلاج، وكذلك علاج بعض الطلاب.
أما عن إمكانيات المستشفى، فيتم علاج المرضى بقدر الإمكانيات المتوافرة، والتى تزيد فى التحسن تدريجيًا، حيث توجد خطة منذ 5 سنوات بإحلال وتجديد جزء من المستشفى كل عام، وأن المستشفى فى حاجة إلى بعض المساعدات لتكملة الأجزاء المتبقية ولتكون على أكمل وجه.
التقينا بالأستاذ جمال عبد الحميد المدير المالى والإدارى للمستشفى للتعرف على النواقص التى يحتاجها المستشفى، فأخذ يعدها لى على أمل أن تقوم أى جهة خيرية بمساعدة عاجلة، حيث إن إمكانيات الوزارة محدودة ومقسمة سنويًا.. وأهم الاحتياجات هى:
تجهيز سيارة الإسعاف، حيث إن السيارة الموجودة بالمستشفى دون أى تجهيزات..
عدد 2 جهاز رسم قلب – جهاز أشعة تليفزيونية – جهاز اوتكلاف تعقيم – جهاز أشعة عادية، حيث إن الجهاز الموجود بالمستشفى قديم منذ افتتاح المستشفى – عدد 100 جهاز ضغط زئبقى – عدد 300 سرير بعجل – عدد 5 تكييفات للمرضى قوة 3 حصان – عدد 100 سخان كهربائى سعة 50 لترا – عدد 50 ثلاجة لحفظ أدوية المرضى بالأقسام – ثلاجة للموتى 4 عيون - عدد 100 عدة تليفون لأقسام المرضى - عدد 15 جهاز كمبيوتر لمركز معلومات المستشفى والإحصاء - تجديد حجز "عنبر النساء الطب الشرعى" بتكلفة تقدر بنحو 50 ألف جنيه - جهاز مولد كهربائى "جونيتور" للعمل عند انقطاع الكهرباء من المستشفى.
مع الإحاطة بأن وزارة الصحة أمدت المستشفى بعدد من التكييفات بعد حادث مستشفى الخانكة.
تأملت هذه الاحتياجات وتعجبت إذ كيف يعمل مستشفى ولديه كل هذا العجز فى الأجهزة الطبية من رسم قلب لأشعات وأجهزة ضغط وسيارة إسعاف بدون أى تجهيزات؟
وتعجبت أيضًا لأحوال المرضى إذ وجدت عجزًا مائة سخان كهربائى يعنى استحمامهم بماء بارد فى عز الشتاء القارص، وعدم وجود تكييفات فى وقت يمتنع فيه تركيب مراوح لأسباب أمنية يعنى تعرضهم للموت من شدة ارتفاع الحرارة، وهو ما حدث فى مستشفى الخانكة.
كما أن عدم وجود مولد كهربائى يجعل كل الأجهزة بلا فائدة فى حالة انقطاع الكهرباء، وما أكثر حدوث انقطاع التيار!
كما تساءلت: أين منظمات الدفاع عن حقوق المرأة وعنبر حجز النساء بلا إمكانيات؟!
اصطحبنى ومصور الجريدة الموظفان بالمستشفى السعيد الغول ورمضان فتحى لمشاهدة بعض العنابر.. سيدات وفتيات يجلسن فى طرقات أحد العنابر، بعضهن تسول منا مساعدة مالية، اعتصرنى الحزن وأنا أشاهد من بينهن فتيات فى عمر الزهور تتراوح أعمارهن ما بين ال12 وال14.
دخلت عنبر النساء الطبى الشرعى والذى تحتجز به المريضات من الجنائيات، العنبر تنبعث منه روائح كريهة لسوء التهوية الرهيب، العنبر عبارة عن حجرة استقبال بسيطة من الواضح أنها مخصصة للمشرفة أو الممرضة أو الحراسة وعن يمينها ويسارها حجرات محاطة بأسوار من الحديد المكثف ونوافذ على نفس الشاكلة، كما لاحظت عدم وجود مراوح أو أى أجهزة تهوية من تكييفات أو شفاطات.
سألت عن عدم وجود وسائل للتهوية، أجاب السعيد الغول أن تجهيز أى عنبر به مسجونين جنائيين يخضع تماما لتعليمات مصلحة السجون بوزارة الداخلية، ويمتنع تماما تركيب المراوح خوفا من استخدام المرضى لها فى عمليات انتحار.. قلت إن المريض الذى يرغب فى الانتحار يمكنه ارتطام رأسه فى هذه الأسوار والكتل الحديدية.
فى مكان آخر قابلنى بعض المرضى مظهرهم يؤكد أنهم أصحاء.. أجاب أيضًا أن هناك بعض المرضى يتم شفاؤهم ولكن ليس لهم أهل يسألون عنهم، وليس لهم مأوى، أو مصدر رزق، فيظلون بالمستشفى، ويستجاب لهم من الناحية الإنسانية، وهو أمر معروف وموجود فى كل مستشفيات الأمراض النفسية الحكومية.
لاحظت وجود لوحة مكتوبا عليها إشادة بأحد رجال الأعمال لتبرعه لترميم العنبر، سعدت لهذه اللوحة التى يثاب فاعلها فى الدنيا والآخرة، وسعدت لإشادة المستشفى بتبرعه ولعله يشجع غيره على التبرع.
نقطة ضوء من الفنان والوزير الإنسان
إزاء ما شاهدته فى المستشفيات المختلفة، بحثت عن أمل ينبعث من تجارب سابقة لإنقاذ مستشفيات الأمراض النفسية.
التقيت بالفنان سمير الإسكندرانى صاحب إحدى هذه التجارب فقال لى: فى أوائل الثمانينيات كتب المرحوم الأستاذ عبد السلام داود الصحفى الكبير بجريدة الأخبار عدة مقالات فى عموده الشهير "علامة استفهام" حول الإهمال فى مستشفى الأمراض العقلية، هزت ضمير الرأى العام، وتأثرت كثيرا فاتصلت به وعرضت عليه القيام معه بجولة فى هذه المستشفيات للتعرف على الحقائق عن قرب ومعرفة أوجه النقص وإمكانية المساهمة والمساعدة، وبدأنا بزيارة مستشفى العباسية، فوجدنا المرضى أشبه بكائنات خرافية وأقرب لحيوان الشمبانزى من الإهمال وترك شعرهم بلا حلاقة أو تهذيب وأجسادهم متسخة وملابسهم مهلهلة وينامون على الأرض ويهيمون فى حديقة المستشفى ويقضون حوائجهم فى أى مكان، والممرضون يعاملون بعنف ويضربونهم بقسوة مفرطة، وإذا كان هذا الحال بوسط العاصمة فإن حال المستشفيات الأخرى أشد سوءًا.
وواصل الأستاذ عبد السلام داود حملته الصحفية بإبراز هذه المهازل، وتبرعت ودعوت غيرى للتبرع، واستجاب لنا أهل الخير وتم إحضار أسرة للمرضى وتم الاهتمام بنظافتهم من استحمام دورى وحلق شعرهم، والاهتمام بالوجبات وكل سبل الرعاية.
نموذج آخر التقينا به، إذ يبدو أن المستشفيات عادت لسابق عهدها بعد فترة من الإصلاح، التقينا بالدكتور إسماعيل سلام وزير الصحة الأسبق، والشهير بلقب "الوزير الإنسان" أو "وزير الفقراء" وهو أكثر من اهتموا برعاية المستشفيات بشكل عام ومستشفيات الأمراض النفسية بشكل خاص.
يقول د.إسماعيل سلام: "لعل الكثيرين لا يدركون اهتمامى بالصحة النفسية قبل دخولى وزارة الصحة.. ففى فترة من الفترات كانت هناك هجمة شرسة على أرض مستشفى الأمراض النفسية بالعباسية، والبالغ مساحتها نحو 80 فدانًا لنقلها خارج القاهرة.. ووقف كثير من أساتذة الطب النفسى وعلى رأسهم د.أحمد عكاشة ود.عادل صادق ضد هذا التيار، ورغم أننى كنت رئيس اللجنة الصحية بالحزب الحاكم، فقد وقفت معهم حتى صدر قرار فى أن يبقى مستشفى العباسية فى مكانه.
وعندما توليت وزارة الصحة عام 1996 كان هناك عائق رئيسي، فهذه المستشفيات تتبع المحافظة، وفى ذلك الوقت كان المستشفى يطرد المرضى.. وبعضهم احتل الشوارع كمتسولين وفى أحد الأيام جرت إحدى المريضات خلف سيارة د.الجنزورى وقذفتها بالحجارة.. ولعل هذه المريضة كانت رسالة القدر وفى اليوم نفسه طلبنى د.الجنزورى واقترح أن يضم هذه المستشفيات إلى وزارة الصحة.. وفعلا كان ذلك بداية التطوير الحقيقي.
وعند بداية تولى الوزارة.. حاول العاملون إبعادى عن الصورة الحقيقية.. فقد صوروا لى خطورة دخوله العنابر والعنف الذى قد أتعرض له.. ولكنى قررت أن أدخل إلى عمق المشكلة وقمت بزيارة فورية.. وشاهدت بعينى المبانى التى انهارت أغلقت تماما وقد ملأتها الثعابين والحشرات.. ولكن الصورة المؤسفة كانت فى العنابر والتى وصلت فى قسوتها سجون القرون الوسطى.. المرضى ينامون على الأرض أو على قطعة من الإسفنج المقطع ودورات المياه قذرة لا تصلح للاستخدام الآدمي.
وحاول العاملون والحرس منعى من اللقاء مع المرضى، ولكنى رفضت وطلبت منهم أن يقفوا بعيدا، وجلست مع المرضى بعضهم كان خائفا أن يتكلم وبعضهم يرتجف وبعضهم لا يشعر بوجوده، وسألتهم ماذا تريدون وفوجئت بالأجوبة.. الأول قال له رغيف عيش زيادة، وشعرت بالأسى لهذا الطلب المتواضع ومن هنا كانت زيارتى المفاجئة للمطبخ، والثانى طلب منى زيارة أمه، والثالث طلب زيارة الهرم، والرابع تحدث وهم يحاولون منعه من الحديث عن أن الضرب يؤلمه، وسألته عمن يضربه.. ونهره بقية المرضى، ولكن سرعان ما تبين أن هناك عُتاة داخل المستشفى وعرفت أسماء بعضهم وقمت بنقلهم وقامت مظاهرة عارمة فى المستشفى ضد القرار، ولكن أصررت على موقفى بحسم، لأضع كل عامل على الطريق الصحيح من أجل المريض.
أما المطبخ فقد سارعت إلى تطويره ومراجعة كميات الأكل وتغير المطبخ تماما ونوعية الأكل، وفزعت وأنا أشاهد ملابس المرضى فى الأقسام التى حاول البعض تخويفى من دخولها، وتأثرت أكثر عندما شاهدت النساء فى ملابس رثة ودون ملابس داخلية.. وفى نفس اليوم أحضرت آلافا من أطقم الملابس للمرضى وطاقمين من الملابس الداخلية لكل مريضة.. ولبس المرضى الترينج الرياضى وبدأ التغيير.. كل ذلك كان من التبرعات التى تجمعها وزارة الصحة، والذى سارع أهل الخير للمساهمة فيها.
وكان لى تصور أكبر من ذلك فى التطوير، وكان أول التطوير هو المبنى الأول "السرايا الصفراء" لأعيده إلى الصورة الجميلة القديمة عند إنشاء المستشفى.. بل وأجمل مما كان عليه، وعاوننا جهاز الشباب والرياضة بإقامة الملاعب.. وعمل ناديًا للمرضى يخصص لهم مشروبين كل يوم، وعلت الابتسامة على وجوههم، وهم يلعبون كرة القدم والسلة بل وأكثر من ذلك تم تشكيل فرق من الأطباء والعاملين وفرق من المرضى.
وفى يوم افتتاح التطوير الأول، حضر د.كمال الجنزورى وانبهر بالمنظر، وسأل: كم تكلف ذلك؟ قال له: 5 ملايين.. فقال: ما أراهُ يساوى 60 مليونًا وتحمس الوزراء الذين صاحبوه.
ولم أنس رغبة المريض فى الذهاب إلى الهرم فطلبت من المشير طنطاوى أن يساعدنا بأتوبيس حتى يذهب المرضى إلى الأهرام وغيرها، وأتم المشير وعده بأتوبيسين وليس بواحد، ولم يشمل التطوير مستشفى العباسية فقط، بل امتد إلى مستشفى الخانكة وحلوان والمطار ومستشفى المعمورة وإلى العديد من محافظات الصعيد.
ولم يكن تطوير الجزء الأول من المستشفى إلا بداية للتطوير الشامل لكل الأقسام، وإضافة مبنيين متكاملين على أحدث المستويات.
مبادئ استمرار النجاح
ولتوضيح إمكانية استمرار حفاظ المستشفيات على مستواها الجيد قال د.إسماعيل سلام: للحق فإن هذا النجاح الذى حققناه ساهم فيه آخرون، فقد قمت منذ البداية بجمع العاملين فى هذا الحقل سواء من القطاع العام أو الخاص لنضع الصحة النفسية مكان البحث والتطوير وقررنا قاعدة فلسفية رائعة: "إن مفهوم الصحة النفسية هو مفتاح مهم فى مسار الحضارة"، وكان علينا أن نترجم ذلك إلى مبادئ خمسة، ولو تم الحفاظ على العمل بها لاستمر النجاح، وهى:
أولاً الوقاية قبل العلاج.. وهذا يعنى وضع أساليب وقائية للصحة النفسية لكل المواطنين.
ثانيا أن للصحة النفسية أولوية فى الرعاية الصحية الأساسية.
ثالثا أن التنمية البشرية للعاملين تتطلب فى المقام الأول مهارات بجانب الدرجة الأكاديمية.
رابعا وفى مواجهة هروب الأطباء وعُزوفهم عن الصحة النفسية أو عملهم بالخارج خصص حوافز قدرها 300%.
خامسا تحويل مستشفيات الأمراض النفسية إلى مؤسسات تأهيل حقيقية وتمت إضافة الرياضة والموسيقى وغيرها للبرنامج التأهيلي.
وتبنى الجانب الاجتماعى من خلال البرنامج التعليمى للأسرة ومن خلال برنامج المجتمع الذى يعيش فيه المريض بمُشرفات اجتماعيات مدربات لذلك.
ووليت اهتماما واسعا لعلاج المدمنين فأنشأت خطا ساخنا لمدة 24 ساعة لمساعدة المدمنين وإرشادهم دون الكشف عن هويتهم، مع مساعدة الجادين من غير القادرين على العلاج، ونجحنا فى التعاون مع جمعيات خيرية فى نشر هذه الخدمة، ولا شك أن مثلث التعاون بين وزارة الصحة والجامعات والجمعيات الأهلية.
ولعل هذا كله كان وراء العبارة الجميلة التى أعتز بها، وقالها عنى الدكتور عادل صادق: "إننى أشعر بأن إسماعيل سلام كان وزيرا للصحة النفسية كما كان وزيرا للصحة والسكان"·
جانب آخر نعرض له يتعلق بالاهتمام بهؤلاء المرضى بنجاح تصميم مستشفيات الأمراض النفسية وفقا للمواصفات السليمة، حيث التقينا بالمهندس الاستشارى الكبير ماهر اندراوس، والذى حدثنى عن نموذج متميز لمستشفى لعلاج الأمراض النفسية قام بتصميمه وهو مستشفى الدكتور عكاشة بالتجمع الخامس، ومن المعروف أن الدكتور عكاشة يعد واحدا من أبرز الأطباء النفسانيين فى مصر والعالم.
فمن مقومات المستشفى كما يقول المهندس ماهر اندراوس وقوعه فى منطقة متسعة يسهل الوصول إليها من عدة محاور..
أما عن التصميم الداخلى فهو نموذج أو "استايل" بسيط، فالشمس تصل لأطول وقت إلى غرف المرضى، حيث إن الأساس أن يرى الإنسان الضوء الطبيعى خاصة فى مستشفيات الأمراض النفسية وليس هذا بغريب أن غياب الشمس فى دول الشمال بأوروبا يعد ضمن أسباب الكآبة والتى تنتهى إلى الانتحار.
كما أن الحجرات مفتوحة على الحدائق وكان من قبل يتم وضع حديد داخل أبواب ونوافذ الحجرات خشية هروب المريض وهو أسلوب خاطئ، حيث يجب مراعاة الجانب النفسى مع توفير رقابة غير مباشرة بما يحقق نتائج أفضل.
أما أبواب الحجرات فهى تفتح للخارج لتأمين سلامة المرضى إضافة لعدم وضع ستائر داخل الحمامات لمزيد من التأمين غير المباشر، أما حديقة المستشفى فهى فى الوضع المائل بالتدريج الطفيف والمريح، بحيث إذا استلقى المريض بغفوة يشعر بالراحة.
أما الألوان فالحوائط يجب أن تكون بألوان فاتحة مثل الأزرق الزاهى والبمبى وغيرها، وفى كل الأحوال بعيدة عن الألوان الداكنة، وسياج الحديد الكئيبة التى تولد فيهم الشعور بالخوف..
أخيرا أختتم التحقيق الاستقصائى بما سمعته من أحد النزلاء بالعباسية وهو "يدندن" قائلا: "العباسية والخانكة دخلوا المحكمة الاتنين.. العباسية طلعت براءة والخانكة خدت سنتين".
وواضح أن كثيرا منا يستحق السجن فى جرائم إهمال مستشفيات الأمراض العقلية بديلا عن "كبش الفداء" ارتفاع حرارة الجو..
وعجبى..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.