اشتراطات الداخلية: عدم تركيب مراوح.. والحجز في أقفاص حديدية المرضى يواجهون الصيف بدون تهوية.. والشتاء بالاستحمام بالمياه الباردة في مستشفى العباسية.. المرضى يهيمون ويتسولون في الحديقة.. ويمكنهم القفز إلى الشارع وفى الخانكة.. روائح كريهة تنبعث من العنابر.. والتكييفات مكلفة والمراوح ممنوعة
انتهت التقارير الطبية الرسمية فى حادث وفاة إحدى عشر نزيلا بمستشفى الأمراض النفسية بالخانكة، إلى أن جميع حالات الوفاة نتيجة الإجهاد الحرارى بسبب موجة ارتفاع الحرارة التى مرت بالبلاد، وعدم وجود شبهة جنائية، وهو ما يتوقع معه مرور الحادث مرور الكرام، والدخول فى طى النسيان. ولأن ما حدث - فى تقديرنا – جريمة تهز الضمير الإنسانى، خاصة أنها تتعلق بفئة يصعب عليها الاحتجاج أو التعبير عن مشاكلها، فإنها جريمة أكبر من توصيفها موتا طبيعيا، بل تكاد أن تكون واقعة قتل، وأن الجريمة شارك فيها كثير من الناس، وإن كانوا بدرجات مختلفة ومتفاوتة، ومن هؤلاء: المسئولين بالمستشفى الذين ثبت إهمالهم وعدم مراعاة تفاعل الأدوية التى تزيد من الإجهاد الحرارى.. والمسئولين بوزارة الصحة الذين تركوا المستشفى بدون إمكانيات للتهوية والعجز فى الأجهزة وفى عدد الأطباء والممرضات.. والمنظمات العاملة فى مجالات رعاية المرضى.. وأيضًا المنظمات العاملة فى رعاية المرأة لوجود سيدات محتجزات داخل المستشفى فى أمس الحاجة للرعاية.. ومنظمات حقوق الإنسان التى لم تمر على النزلاء المحتجزين بمثل هذه المستشفيات بسبب ارتكابهم جرائم جنائية، حيث تخضع العنابر المحتجز بها هؤلاء لاشتراطات وزارة الداخلية، وتستخدم بها كميات كبيرة من الحديد بدعوى إجراءات التأمين، فى وقت يحظر وجود مراوح بدعوى الخوف من شنق المرضى أنفسهم عن طريق التعلق بها ( رغم إمكانية قتل المرضى أنفسهم بالارتطام بالحديد الصلب) وعدم وجود مساحات مناسبة للتهوية وهو ما ساعد على ارتفاع الحرارة والتى لا يتحملها النزلاء عند حدوث مثل الموجة الأخيرة من ارتفاع كبير جدًا فى درجات الحرارة.. والأثرياء ورجال الأعمال الذين لم يلتفتوا لحال مثل هذه المستشفيات النفسية وحاجاتها إلى تبرعات.. وأفراد المجتمع الذين لم يكترثوا بقضايا المحتجزين فى الأمراض النفسية.. ونعتقد أن كل هؤلاء شاركوا فى جريمة قتل هؤلاء النزلاء بصورة أو بأخرى، يجمعها معنى واحد وهو "الإهمال".. وهو الفاعل الذى لا بد من محاكمته وسجنه أو حتى إعدامه، وقد قال البعض لو كان الإهمال رجلا لقتلته. ومن أجل معرفة تفاصيل جريمة هذا القاتل "الإهمال" ومحاولة توصيفه والتصدى له، بعد أن حاول البعض تقديم "كبش فداء" بقصر الاتهام على " الحر" قمنا بهذا "التحقيق الصحفى الاستقصائى" وما تضمنه من لقاءات ومتابعات لجهات التحقيق، ومواجهات ومعرفة آراء المسئولين، كما قمنا بزيارات لعدد من مستشفيات الأمراض النفسية قاتل اسمه الإهمال بداية إذا كان هناك ما يطلق عليه القتل السلبى، مثل حالة امتناع الأم عن إرضاع صغيرها، فقد أكدت تصريحات المسئولين بالصحة عن وقائع إهمال جسيمة تحمل وزارة الصحة بما لا يقل عن امتناع الأم من إرضاع صغيرها، ومنها ما صرح به مدير المستشفى الدكتور مصطفى شحاتة – الذى تمت إقالته - إنه غير مسئول عن وفيات وإصابات المرضى قائلا: أنا غير مسئول عن موجة الحر وفتحت مكتبي ومكاتب الممرضين لإقامة المرضى لضعف إمكانيات أجهزة التكييف. مؤكدًا اتخاذه كافة الإجراءات لتخفيض حرارتهم، قائلاً: كنت بحميهم بنفسى، وما حدث يرجع إلى سوء حالة المستشفى والتجهيزات المتاحة لها والنقص الحاد في الأطباء والتمريض، وأنه تم نقل أكثر من 15 من النزلاء إلى مستشفيات الحميات، بعد أن وصلت درجة حرارتهم إلى 42 درجة، إثر إصابتهم ب"الإجهاد الحراري"، بسبب ارتفاع درجة حرارة الجو.. وأضاف د . شحاتة: مستحيل نركب مراوح داخل عنابر المرضى، لأن هناك تعليمات بخطرها عليهم، باعتبارهم مرضى نفسيين، ومن الممكن أن يستخدمها أحدهم في الانتحار، كما أننا لا نستطيع تركيب تكييفات لأننا لدينا عنابر كثيرة، بها أكثر من ألفي مريض، ما يعني أننا نحتاج إلى ميزانية ضخمة ليست متوافرة للمستشفى. وأردف قائلاً: إنه يتم تعويض المرضى عن المراوح والتكييفات بإخضاعهم للاستحمام بالمياه الباردة كل ساعتين، لترطيب أجسادهم، خاصة وأن أدوية الأمراض النفسية والعصبية تتسبب في رفع درجة حرارة جسم المريض فتصل في بعض الأحيان إلى 42 درجة، موضحًا أن المستشفى تقع على مساحة 180 فدانًا، وجميع العنابر عبارة عن دور واحد، والتهوية الطبيعية موجودة، لكنها لا تمنع ارتفاع درجة الحرارة الشديد في المستشفى. و أكد أن التقارير الطبية التي كتبها مفتش الصحة، كشفت أن الوفيات التي وقعت مؤخرًا طبيعية، لذا تم تسليم الجثامين لذويها، محملا الدولة نتيجة وفاتهم بسبب النقص الحاد في عدد الأطباء والممرضين بالمستشفى يخدمون 2200 مريض، ومستشفى الخانكة هو أكبر مستشفى في الشرق الأوسط يخدم 30 ألف مريض متردد و1500 مريض محتجز و700 مسجون مريض نفسي في ظل إمكانيات ضعيفة ، و أن العنبر يتسع لما يقرب من 30 إلى 60 مريضًا وفقًا لمساحته وبفارق من 3 إلى 5 أمتار بين كل سرير بما يتنافى مع المعدلات العالمية. رحلة لزيارة مستشفيات الأمراض العقلية قررنا فى تحقيقنا الاستقصائى الذهاب لزيارة عدد من مستشفيات الأمراض العقلية، ولكن مع صعوبة زيارة المستشفيات، خاصة مع الإجراءات المشددة لوزارة الصحة بتجنب الحديث للصحفيين عقب الحادث، كان علينا البحث عن حيلة لدخول المستشفيات. جاءت الفرصة كهدية من السماء، إذ سبق أن ذهبت منذ فترة قليلة مع أسرة المريض ( س ص ) – نحتفظ بالاسم بناء على طلب أسرته – إلى الدكتور أيمن العزونى استشارى الأمراض النفسية والعصبية لعلاج المريض المذكور، والذى نصح بحجزه بمستشفى للأمراض النفسية لتوفير بيئة علاجية أفضل، وبعده عن المؤثرات سواء أصدقاء السوء أو حتى الأهل لما يتعرضون من أخطار فى فترة المرض والتى قد تصل إلى القتل. فهو يعانى من حالة مرضية بسبب إدمان أقراص الترامادول أو الترامال والامادول والترامكس وغيرها، والتى تناولها بعيدا عن مراقبة الأسرة ظنا منه أنها تساعده فى الهروب من مشكلات اقتصادية، فضاعفت المشكلة إذ أصابته بالخمول وأفقدته أية رغبة فى العمل. وجاءت الكارثة فى أنه أخذ – بمعاونة أصدقاء السوء - فى مضاعفة الكمية التى يتعاطها، إذ يبدو أن درجة التعود تضطر الشخص لمضاعفة الجرعة للحصول على تأثيره المسكن الذى يقل بعد فترة، وقد نتج عن هذا الإدمان آثار مرضية – ساعدت الأسرة فى وصفها للطبيب - منها: فقدان الشهية والدوار والغثيان والتشنجات وصعوبة التنفس والتقلصات العضلية والخلل فى الرؤية فضلا عن متاعب وآلام فى الكبد والكلى وفقدان الذاكرة، كما أن هناك ملاحظات منها إصابته بالاكتئاب، وخوفه من الليل والأماكن المظلمة والأرض الخلاء، أما الأخطر فهو ما تسبب فى مشكلات اجتماعية، إذ يبدو أنه هادئ جدًا إلى درجة الانطواء، ثم يشارك فى الحديث بهدوء إلى درجة أن المستمع له يحسبه فى قمة الفهم، وفجأة يقوم بحركات لا إرادية عدوانية وتهيج بصوت حاد ومرتفع ليتحدث عن وقائع غير حقيقية بالمرة، ومنها اتهامات لبعض أفراد الأسرة بارتكاب الفحشاء أو أفعال فاضحة، وهو ما يمكن أن يسبب كوارث اجتماعية، وبالفعل ذهبت مع المريض وأسرته إلى مستشفى خاص كبير لعلاج الأمراض النفسية والعصبية لعلاج مريضها0 ( نحتفظ باسم المستشفى تجنبا للدعاية) ورغم أن العلاج بدأ فى تحسين الحالة، إلا أن التكاليف التى تفوق قدرة الأسرة جعلتها تتوقف عن استكمال العلاج بالمستشفى، فتكلفة السرير فى غرفة مشتركة 350 جنيها لليلة بخلاف مصاريف العلاج من تحاليل وأدوية وغيرها، ولمدة قد تتجاوز ثلاثة شهور على الأقل. ملحوظة: التقيت بالأستاذ هشام عباس رئيس الجمعية المصرية لمكافحة الإدمان وعلاج المدمنين – وهى من أشهر الجمعيات الأهلية فى هذا المجال - فقال: إن هناك فوضى فى علاج الإدمان فى مصر، ولا توجد أى مؤسسة حكومية أو خاصة لديها علاج للإدمان بشكل طبى علمى مثالى متكامل، ومازلنا فى المراحل المبكرة جدًا فى العلاج، ونحن نعتبر الإدمان تحت قائمة العلاج النفسى بينما الإدمان مرض أشمل، ويمثل أحد الأمراض الثانوية للعلاج النفسى والعقلى، وهو أولا مرض بيئى معظمه بسبب أصدقاء السوء والثقافة والتعليم وغيرها. وأضاف: الواقع أنه ليس لدينا استراتيجية متكاملة لعلاج الإدمان، وليست هناك بعثات للأطباء للاطلاع على العلاج بالمصحات فى الخارج، وحتى نسبة الاستشفاء ضئيلة، لدينا أسرة لا تتعدى 3 آلاف فى كافة المستشفيات الحكومية والخاصة فى وقت تذكر الإحصائيات أن عدد المدمنين والمتعاطين حوالى 8ر7 مليون مواطن. وتعبير مستشفيات علاج الإدمان ينقسم إلى قسمين.. قسم يختص بالمستشفيات الحكومية والمستشفيات الخاصة الكبرى، وهذا جيد وإن كان فى حاجة إلى تطوير وتحديث طبى وعلمى، فنسب نجاح العلاج محدودة وغير مرضى، أما الخطورة ففى مراكز علاج الإدمان التى تسمى زورا بالمستشفيات، وقد انتشرت فى السنوات الأخيرة بصورة خطيرة، وحقيقتها أوكار أو شقق مفروشة للاتجار بالمدمنين، وهى بدون ترخيص ولا يوجد بها أطباء بل يديرها أشخاص فى الغالب مدمنين سابقين يطلق عليهم وصف "متعافى" وقد يقوم بعض العاملين بهذه المراكز بالتغاضى عن وصول مواد أو أقراص مخدرة. ويضيف هشام عباس: لقد فوجئت بحضور شخص من هؤلاء للجمعية للحصول على خطاب باسم الجمعية لعمل ترخيص لمركز لعلاج الإدمان، ورفضت بشكل قاطع .. علما بأن الوزارة أغلقت عشرات من هذه المراكز أخرها 38 مركزًا "دفعة واحدة" معظمها بالمقطم والتجمع والمدن الجديدة. وهذه المراكز هى مراكز "بئر السلم"، أما المستشفيات الكبيرة فهى حاصلة على ترخيص، وبها انضباط، وإن كان الأهم ليست فى مظهر المستشفى ولكن فى الناحية الطبية، وبالطبع هى الأفضل وننصح بالعلاج بها، سواء مستشفيات خاصة للقادرين أو حكومية لغير القادرين، وفى كل الأحوال أخطر مشكلة تواجه علاج المدمنين عودتهم لنفس البيئة وأصدقاء السوء. "العباسية" ورعب عنبر الحالات الخطرة وعن طريق مصدر بوزارة الصحة اتصلت بالدكتور هشام رامى أمين عام الصحة النفسية والموجود بمكتبه بمستشفى العباسية للأمراض النفسية، والذى رحب بإحضار المريض لتوقيع الكشف الطبى عليه وبحث إمكانية علاجه،ولأسباب خاصة بمقاومة المريض للذهاب للعلاج، وبعد المسافة عن مقر المستشفى وصلنا إلى المستشفى الساعة الثانية ظهرًا، إذ قابلنا رجال أمن المستشفى على البوابة الخارجية، واصطحبنا أحدهم حتى حجرة الاستقبال، وفى الطريق لاحظت وجود الكثير من المرضى طلقاء يهيمون فى حديقة المستشفى، وبعضهم تسول منحنا له لنقود، كما لاحظت أنه يمكن لأى مريض القفز من أعلى السور إلى خارج المستشفى، إذ أن ارتفاع الأسوار منخفض ولا يزيد على مترين ونصف المتر، إضافة لاتساع مساحة الحديقة، ووجود كثير من الأشجار مما يصعب على الأمن المراقبة بدقة وفى حجرة الاستقبال جاءت أولى المفاجآت إذ لا يوجد أطباء بسبب انصرافهم حوالى الساعة الواحدة والنصف، ولم يكن أمامنا سوى التعامل مع الممرضين. أفادنا الممرضون أنه يمكن إعطاء المريض حقنة مهدئة، والمبيت بالمستشفى حتى الصباح عندما يحضر الأطباء لتوقيع الكشف الطبى عليه وإجراء التحاليل واتخاذ القرار بحجزه للعلاج بالمستشفى والذى يأتى بعد عمل لجنة لمناقشة المريض، والتأكد من مدى استعداده للعلاج، خاصة مع وجود أعداد من المرضى، إضافة لارتفاع أسعار الأدوية التى تساهم بها المستشفى. سألنا عن مكان الحجز، فأفادوا أن المتوافر الآن عنبر الحالات الخطرة فقط، فعنبر علاج الإدمان ملىء بالمرضى، وعلى أى مريض انتظار دوره عند خروج مريض تم شفاؤه ليحل مكانه. أما عن التكلفة فأكبرها فى شراء أدوية من الخارج بجانب الأدوية التى تصرفها المستشفى، ومتوسط " فاتورة " شراء الدواء من الخارج شهريا نحو 800 جنيه. ذهبنا للنظر من نوافذ عنبر الحالات الخطرة، فشاهدنا مناظر خطرة بحق إذ الأسرة غير منتظمة من الواضح عبث المرضى بها، وبعضهم يتركونها وينامون على الأرض، وبعض الأجهزة مكسرة، وبعض المرضى يتشاجرون ويتشابكون.. فلم يكن أمام أسرة المريض سوى الخوف على حياة مريضهم والانصراف. أهوال الخانكة وعليه قررنا أن نذهب بالمريض مبكرًا إلى مستشفى حكومى آخر وهو مستشفى الخانكة للأمراض العقلية. وصلنا إلى مستشفى الخانكة بعد رحلة عذاب بعد أن اكتشفنا أنه يقع فى منطقة "مقطوعة" تحيطها أرض جرداء أقرب للصحراء، وبعض زراعات الأشجار والنخيل فى أجزاء متفرقة، كما شاهدنا بعض "العشش" التى هى أقرب للأوكار للصوص والمدمنين والخارجين عن القانون أو الأعراب بالمنطقة، وهى منطقة بعيدة تمامًا عن المواصلات العامة أو حتى الميكروباص، وهو ما اضطرنا إلى تحمل تكاليف تاكسى بمبلغ خيالى للنجاة من هذه الأهوال والتى ربما تمنع أهالى المحتجزين من زيارتهم، إلا أن هذا لم يمنع من تدويننا بعض المشاهد، داخل السور الخارجى للمستشفى فبعض الأسوار البسيطة أقرب لمصاطب يجلس عليها المرضى، وكذلك عدد من الأرصفة، وقد صادفنا أكثر من مريض يقوم بالتسول ويطلب " يشحت" سجائر، وعندما تحدثت مع إحدى الممرضين فى الطوارئ رد ليس لنا شأنًا، اتركه ولا تستجيب له وهو غير مؤذ، إلا أن ما لاحظناه هو وجود عدد كبير من المرضى منتشرين بإحدى الطرقات الملحقة بأحد العنابر منهم من ينام على الأرض، وروائح كريهة للغاية تشم من مسافات خارج العنابر، وعلمنا بعدم وجود مراوح وسوء التهوية، وهو نفس ما أكده الدكتور مصطفى شحاتة الذى تمت إقالته وأصبحت أحاديثه من خارج المستشفى. ورغم أننا أثناء دخول المستشفى لاحظنا تنزيل عمال لأجهزة تكييف لتركيبها بالمستشفى، إلا أن أسرة المريض رفضت حجزه خاصة مع منظر المرضى وانبعاث الروائح الكريهة، وما نشر عن حوادث وفاة المرضى فى الفترة الأخيرة، وتصريحات الدكتور مصطفى شحاتة مدير المستشفى السابق. وتواصل "المصريون" نشر الحلقة الثانية من زياراتها الميدانية ل"مستشفيات الموت" فى العدد القادم.