من المفاهيم الشائعة فى ثقافتنا العربية أننا مع حرية التعبير ولكن بحدود.. تبدو هذه العبارة براقةً فى ظاهرها..ولكن هل ينبغى أن تكون هناك حدود لحرية التعبير بالفعل ؟.. التعبير هو صنو التفكير..فما دام الإنسان يفكر فلا بد أن يعبر ..وإذا لم يعبر الإنسان عن أفكاره ضاق صدره، وشعر بالاختناق..وفى كلام موسى عليه السلام مع ربه تتضح لنا هذه العلاقة: "ويضيق صدرى ولا ينطلق لسانى"..فعدم انطلاق اللسان للتعبير عما يجيش فى النفس يؤدى إلى ضيق الصدر، وقد امتن الله عز وجل على الإنسان بأن علمه البيان "خلق الإنسان علمه البيان".. والتفكير بطبيعته لا يعرف الحدود، فعقل الإنسان يفكر فى كل الاتجاهات. والأسئلة ترد على أذهاننا فجأةً دون أن تنتظر إذناً بالدخول..فالإنسان لا يستطيع أن يقيد تفكيره بقيود ومحددات، أن يفكر فى هذا الاتجاه ولا يفكر فى الاتجاه الآخر.. الصحابة كانت تخطر ببالهم أسئلة فى جميع الاتجاهات وكانوا يبوحون بها للرسول صلى الله عليه وسلم فلم يكن يرد منها سؤالاً وإنما كان يجيب عليها بالحجة العقلية ولم يرد فى سيرته يوماً أنه أسكت صحابياً أو نهاه عن السؤال، ومن قال بخلاف ذلك فإننى أتحداه أن يأتينى بدليل واحد.. بل فى القرآن ذاته وهو كتاب الله رب العالمين كان يعرض أقوال الكفار ويرد عليها بالحجة والبرهان، فهو كتاب محاججة عقلية، وكان الله قادراً على أن يرد على هؤلاء الكفار بالقول إننى أنا الله رب العالمين وعليكم أن تؤمنوا بى أو أن أعذبكم، ولكنه عز وجل يريد أن يعلمنا نحن البشر القاصرين المخطئين أن نؤسس علاقاتنا على الإقناع وليس على الإكراه.. القرآن زاخر بالأدلة العقلية لإثبات ألوهية الله، وكل شبهة يعرضها الناس يرد القرآن عليها رداً إقناعياً وليس رداً سلطوياً..حتى فى تلك الحالات التى كان البشر يسيئون فيها إلى خالقهم فإنه لم يكن يتخلى عن منهج المحاججة العقلية، فحينما قال اليهود بحق الله عز وجل قولاً عظيماً "يد الله مغلولة"..رد عليهم رداً علمياً وليس رداً انفعالياً غاضباً: "بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء"..ولنا أن نقارن بين هذا الرد الإلهى القائم على الإقناع وإزالة الشبهات، وبين رد أحدنا حين يشتم فإنه سيتخلى عن لغة المنطق والحجة ويرد الشتيمة بأضعافها.. ما دام التفكير حراً بطبعه ولا يعرف الحدود فإن التعبير أيضاً يجب أن يكون حراً، فمن حق أى إنسان أن يعبر عما يجيش فى صدره، وأن يتساءل، ومن حقنا أن نرد عليه ونبطل شبهاته بالحجة، ولكن ليس من حقنا أن ننهاه عن التساؤل لأننا إن فعلنا ذلك فلن يتوقف عن التفكير، وكل ما نكون قد فعلناه هو أننا خلقنا حالةً من الانفصام والازدواجية بين باطن المرء وظاهره، وبذلك فإننا نشجع النفاق ونقتل روح الإنسان، ونقضى على جو التفكير السليم.. أن يعبر كل إنسان عما يجيش فى خاطره من أفكار فهذا هو الجو الصحى السليم الذى يخلق الإبداع ويثرى الأفكار، لكن أن نكبت حرية التعبير وأن نلوح بسيف التهديد للناس إذا عبروا عما لا تهواه أنفسنا فإننا بذلك نغذى عناصر التوتر فى النفوس، ونخلق لنا أعداءً فى الخفاء يكون خطرهم أعظم مما لو كانوا تحت ضوء الشمس. قد ننجح فى إسكات الناس عن التعبير عن أفكارهم وطرح تساؤلاتهم، ولكننا أبداً لن ننجح فى كسب قلوبهم، وفى الاستفادة من إبداعاتهم فى تطور المجتمع "أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين". سيقول فريق من الناس إن فتح الباب أمام حرية التعبير دون قيود سيتيح الفرصة لأصحاب الفكر المنحرف لإفساد عقول الناس، وهذا الرأى يديننا قبل أن يدين هؤلاء المنحرفين، لأننا نفترض أن الحق الذى بين أيدينا ضعيف ولا يستطيع مواجهة الباطل، والواثق من قوة حجته لا يخشى المواجهة الفكرية، فالحق يستمد قوته من ذاته وليس من إسكات الآخرين، وحين تكون الفرصة متكافئةً بين الحق والباطل للتعبير عن نفسيهما فإن الغلبة ستكون للحق، لذلك كان الكفار هم من يرفض مبدأ الفرص المتساوية للتعبير وليس النبى محمد "وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون".. لو كان هذا الرأى صالحاً لزمن من الأزمنة فإنه لن يصلح فى زمان الفضاءات المفتوحة الذى نعيشه..حيث تهب الأفكار من كل حدب وصوب وتغزو بيوتنا، ولم يعد يجدى أن نحجر على حرية الناس فى التساؤل والتفكير، بل بات من الملح أن نبحث عن إجابات لكل الأسئلة المطروحة حتى تلك الحرجة منها إن أردنا إنقاذ أنفسنا من التلاشى.. والله أعلم.. [email protected]