كأنها كانت جنازة عجيبة .. تبث عبر الفضائيات باكثر من ستة عشر كاميرا ديجيتال .. حضرها الرئيس وكل من حوله من مسؤولين. اصطف خمسة آلاف مشارك في مراسم الدفن يرقصون رقصة الموت .. يلبسون أقنعة الموتى .. ويحملون مشاعل السائرين نحو القبور. بدأت الجنازة وقت صلاة المغرب .. لم يكن لدى الحاضرين وقت للصلاة لأن "المطرب اللطيف" كان يصدح بكلمات الرثاء الأخير. وفي مشهد يمثل كارثة دبلوماسية لم تحدث من قبل في أي دولة من دول العالم .. نزل المظليون يحملون أعلام الدول المشاركة لكي تمسح هذه الأعلام أقدام المظليين قبل أن تمسح أرضية الاستاد الرياضي الذي شيعت منه الجنازة. عندما تسقط راية دولة على الأرض .. فإنها إهانة – ليست فقط على المستوى الدبلوماسي المعاصر – ولكنها إهانة قديمة قدم التاريخ والحروب وكرامة الشعوب التي يعبر عنها هذا العلم. تسألت في نفسي غير مصدق .. كيف تبدأ جنازة مصر التي شارك فيها ممثلوا الدول الإفريقية بإهانة أعلام بلدانهم على مرأى من مليار مشاهد؟ ألم أقل لكم أن الجنازة كانت عجيبة. اختفت أشعة النهار ليبدأ ظلام الرتابة الإعلامية واحتقار ضيوف إفريقيا .. لم نكتف بمن قتلنا خطأ – على حد الخطاب الرسمي – منذ أسابيع .. أو بإهانة الأعلام التي تصدرت الاحتفال الجنائزي .. ولكننا أرهقنا إفريقيا .. وبقية العالم الذي كان يتابع الحدث بمشاهد متتالية للموتى بزعم أنها تمثل حضارة مصر .. رأينا مئات الصراصير التي تزحف من كل جانب في الاستاد الرياضي .. والمعلق يخبرنا أنها تمثل رمز الشمس أو الحياة .. ولم نحسن اختيار المثال .. لا .. بل أعتذر فقد أحسنا الاختيار .. ألسنا نمثل مشاهد الموت .. فنحن حقاً في جنازة. المشاركون يتحركون ببطء وتكلف .. يسيرون كأنهم هم الذين يساقون إلى الموت .. نسيوا أن من تشيع جنازته هي تلك الدولة .. التي نحبها حقاً.. ولكن الجنازة تتحرك ببطء شديد .. إن من سوء الطالع في الجنازات أن تسير بطيئة متثاقلة. تمضي الدقائق ثقيلة .. وتتحول الجنازة من مشهد فرعوني .. إلى مشهد إفريقي أشد سخافة .. وأثقل ظلاً .. وأبطأ حركة. قدمت أفريقيا للعالم .. وكأنها رمز التخلف والصور القديمة .. لم يقدم أيضاً عن مصر سوى الماضي القديم .. الماضي الذي لو أتيحت له الفرصة لتبرأ منا .. ولو أتيح لنا العقل لما قدمناه بهذا الشكل المهين. تحول المشهد بعد ذلك إلى صدح آخر لأغنية جديدة .. فقد اقتربت لحظات الإعلان عن صلاة أخرى .. لابد أن نتجاهلها لأننا في مشهد جنائزي تحول إلى رقص على أنغام عبارة تقول أن "كل البشر واحد" .. الكاميرات كان تؤكد هذا المعنى إلا قليلاً .. هناك من يجلسون خلف الزجاج المضاد للرصاص .. يبتسمون في هدوء .. لعلهم كانوا يتساءلون في نفوسهم .. هل حقاً كل البشر واحد .. واقع اللحظة لم يكن يؤيد ذلك .. كان المشهد يقول .. كل البشر واحد .. إلا واحد. انتهت الجنازة كما بدأت بكلمات طعنت فيها اللغة العربية طعنات متتالية .. وظهر عدم الاستعداد للجنازة على مرأى ومشهد الجميع .. كلمة الرئيس لا تترجم .. فليس هناك من يبالي برأي العالم .. كلمة رئيس الاتحاد كانت بلغة لا يفهمها إلا أقل القليل .. ومع ذلك لم تترجم .. وكلمة رئيس اللجنة .. كانت بعربية ركيكة ولكنها مفهومة وصادمة لأن كلماتها كانت تسجد لشخص واحد .. وتتجاهل قارة بأكملها .. ومع ذلك لم تترجم .. يكفي أن يسمعها شخص واحد. ولم ينس معدو الجنازة أن تطلق في نهايتها الطلقات النارية التي تعبر عن قيمة الحدث .. أثبتنا خلالها أننا نملك أن ننفق الملايين في الطلقات النارية الفارغة .. لعلنا نبهر من يجلسون في المنصة الرئيسية .. فليس هناك في الدنيا أهم من ذلك .. حتى لو كنا في جنازة. الجنازة مؤلمة .. بدأت أحداثها منذ زمن .. المحزن أن أقارب الميت يفرحون ويرقصون .. أو يأبوا حتى أن يعترفوا أن الموت قد أصاب دولتهم وكيانهم .. أنهم قد أصبحوا على هامش العالم .. يصدقون أنفسهم وهم يكذبون .. يجترون ماضي يأسف أن يكون هذا حال الأحفاد .. أليس من المحزن أن أقارب الميت يخدعون أنفسهم أن العالم لا يراهم .. يغمضون أعينهم عن كل ما يحدث حولهم .. وبذلك تصبح حياتهم ذات معنى .. أو قل ذات جدوى .. المهم أنهم موج=E كاتب مصري [email protected]