يعتقد كل ثائر أنه الأجدر والأحق بحكم مصر.. مادام قد ثار على النظام السابق وكان سببًا فى خلعه والخلاص منه .. وأن تولية الثوار للحكم هو بمثابة مكافأة نهاية الخدمة لهم .. وأنهم الأحق دون غيرهم بقطف الثمرة. وهم فى غمرة حماسهم للحكم ينسون كل الفلاحين الذين مهدوا الأرض لها ووضعوا البذور فيها وظلوا سنوات طويلة يرعون هذه الثمرة حتى أينعت وحان قطافها. فجمال عبد الناصر ثار على الملك فى 23 يوليو 1952م ونجح فى خلع الملك فاروق فرأى أنه الأجدر دون غيره من كل السياسيين المصريين بحكم مصر .. رغم أن عمره وقتها لم يتجاوز 36 عامًا .. ولذلك حل جميع الأحزاب بلا استثناء . وكأنه يقول للجميع : رغم خبرة هؤلاء السياسيين الطويلة وحنكتهم وعلمهم .. إلا أننى الأحق بحكم مصر باعتبارى الثورى وليس باعتبار الملكات . ولما حكم مصر فعلاً وأد تجربتها الديمقراطية .. ووقع فى خطيئة التأميم .. ونفذ الاشتراكية بطريقة أخرجت كل رءوس الأموال من مصر . ثم جاءت الطامة الكبرى فى هزيمة 67 .. وذلك كله رغم حبه لمصر وإخلاصه ووطنيته التى لا يستطيع أن يشكك فيها أحد .. وبالطبع كان هناك في مصر وقتها من هو أكثر منه خبرة وحنكة وتجربة فى حكم مصر .. ولكن نظرية " حق الثائر في الحكم".. هى التى قصمت ظهر مصر وقتها . وقام القذافى بثورة الفاتح فى ليبيا وهو ملازم أول .. فرأى أيضاً أنه الأجدر بحكم ليبيا دون سواه .. فجرب فى ليبيا كل ألوان الشطط والجنون والديكتاتورية الحمقاء التى ليس فيها مسحة عقل .. ولا يتسع المقال لبسط كل ما أحدثه فى ليبيا من الخبل فى الحكم الذى لم تره دولة حتى فى القرون الوسطى.. وتكرر هذا فى بلاد كثيرة يصعب حصرها . وقد أعطانا الإسلام نموذجاً عظيماً يدل على أن الثائر ليس بالضرورة أن يكون صالحًا للحكم .. لأن الثائر عادة يتمتع بطاقة مثالية أو غضبية لا تجعله صالحاً لإدارة الحياة بطريقة صحيحة . فهذا سيدنا أبو ذر رضى الله عنه وهو أبو الثوار فى عهد عثمان بن عفان والذي أراد تسوية الفقراء بالأغنياء .. وأراد من الخليفة عثمان أن يقوم بتأميم أموال الأغنياء ويعطيها للفقراء . ولكن سيدنا عثمان رأى أن هذه الآراء المثالية تصطدم بحقائق الحياة وفطرة الله التى فطر الناس عليها .. وأدرك أن الشريعة التى تنزلت من عند الله لم تطلب من الإنسان سوى 2.5 % من ماله كزكاة.. ولو طلبت أكثر من ذلك لظهرت أضغان الأغنياء وأخفوا أموالهم.. قال تعالى: "إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ". وقد أدرك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن أبا ذر الثائر لا يصلح أن يكون حاكمًا. ولذلك رفض أن يوليه أى إمارة قائلا ً له : " يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزى وندامة " . والضعف هنا ليس ضعف الإيمان .. فقد كان أبو ذر من أقوى الصحابة إيمانًا ولكنه الضعف الإدارى والسياسى وعدم القدرة على التعامل مع أطياف الرعية المختلفة ومع القضايا الإستراتيجية نظراً لمثاليته الشديدة التى تصطدم بواقعية الإسلام. فهل يكون الثائر اليوم أفضل من سيدنا أبى ذر .. أم ماذا ؟ [email protected]