( كان السلطان جلال الدين الدولة بن السلطان ألب أرسلان السلجوقى فى مجلس حكمه، إذ دخل عليه رجلان يستغيثان من ظلم وقع عليهما. ولم يجدا ناصرًا ولا معينًا ينصفهما؛ فلم أستمع إليهما قال: خذا بيدى واحملانى إلى الوزير؛ فامتنعا؛ فقال لهما: لابد من ذلك. فبلغ ذلك الوزير نظام الملك؛ فقام حافياً وتلقاه متعجباً مستفسراً: ما هذا الذى أرى؟!. قال السلطان: أنت الذى أحوجتنى إلى هذا، لقد عينتك لتدفع عنى الظلم؛ فإذا لم تدفع عنى؛ أخذانى يوم القيامة هكذا إلى ربى يوم ليخاصمانى أمامه، وما يدرينى أين يأمر بى فأطرح فى النار). هكذا تذكرت تلك الأدبية الرفيعة التى أوردها ابن الجوزى فى (المنتظم)؛ من أدبيات الحكم الإسلامى إبان الدولة السلجوقية. وتألمت معها على واقعنا الحالى وقد تعرض الكثير من أبناء شعبنا الثائر على الظلم والقهر على أيدى حاكميه؛ بعد أن كان يطمع فى مستقبل حر يتحقق فيها شعار (عيش حرية عدالة اجتماعية) والذى رفعه منذ أوائل مظاهرات ثورة 25 يناير؛ بل كان من أبرز مطالبه فى احتجاجات ووقفات السنوات الأخيرة من نظام المخلوع، وسقط تحته مئات الشهداء، وفقأت مئات من أعين المحتجين، والآلاف من الإصابات والعاهات المستديمة، وسجن الآلاف أيضًا، وامتهنت كرامة الكثير تحت (بيادة) الأمن ثم العسكر، وتعرض بعض المتظاهرات إلى عمليات السحل الهمجية وهتك العورات أمام الكاميرات!. فأهاجت هذه الأدبية فى نفسى تلك الرسائل التربوية: 1-ألا يقرأ تلك الآثار من بيدهم مقاليد مصرنا التى ثارت من أجل رفع الظلم فخلعت أعتى نظم الاستبداد فى العالم؛ فيتعلمون عاقبة الظالمين أمام ثورة المظلومين. 2-ألا يتعلم أولئك الجالسين على كرسى الحكم من كلمات هذا السلطان التى تترجم خوفه من ربه. 3-ومن هنا نستطيع أن نفسر هذه النتائج التى أفرزتها انتخابات دول الربيع الثورى، وشوق الشعوب إلى عالم نظيف يحكم به من يخاف الله عز وجل فى شعبه؛ فكانت النتائج فى صالح الأحزاب ذات التوجه الإسلامى. 4-وهى رسالة ترد على أولئك الليبراليين الذين يملأون الأرض صراخًا والفضائيات جعجعةً بمقولات ترسخ أن الحكم الإسلامى عاش سنوات معدودة فقط فى ظل الخلفاء الأربعة ثم تحول إلى ديكتاتوريات تحكم بالأوتوقراطيين الذى يحكمون العباد بسيف رب العباد. 5-نهوض وسقوط ... وما أشبه الليلة بالبارحة: فهذه الدولة السلجوقية (433-619ه) كما يقول د. عبد الحليم عويس فى كتابه (أوراق ذابلة من حضارتنا: دراسة لسقوط ثلاثين دولة إسلامية) كان لها الفضل فى إنقاذ الخلافة العباسية؛ عندما استدعاهم الخليفة العباسى (القائم) ضد المتمرد الشيعى (البساسيرى)، فتزعموا الخلافة وحموها من كثير من عثرات السقوط، وامتدت فتوحاتهم إلى آسيا الصغرى حتى قيل أنها كانت أحد أسباب قيام الحروب الصليبية. ثم تحولت من الصعود إلى الهبوط عندما تسرب إليها سوس السقوط الحضارى نتيجة لأخطاء متكررة: (1) تقسيم الدولة إلى نظام الإقطاعات وإسنادها إلى شخصيات سلجوقية، ليشغلوهم عن التفكير فى الحكم؛ فبدأ التفتيت عندما كون كل منهم إمارة صغيرة وحاول الإنفصال بها. فهل أمة اقرأ لا تقرأ تاريخها؛ لأنها نفس أخطاء سقوط الأندلس، واتفاقية (سايكس بيكو) ثم ما زال يحدث فى بعض الدول والممالك العربية المعاصرة؛ كالسودان والعراق، وما يحاك فى الظلام لمصر على أيدى أقباط المهجر وطابورهم الخامس بيننا!. (2)اختيار الأمراء على أساس نظام التوريث لا على الكفاءة. وهو خطأ لا يحتاج إلى تعليق فالواقع يصدقه. (3)التهاون أمام حركات التمرد الباطنية مثل الحركة الإسماعيلية بزعامة الحسن الصبح؛ فأنهك الدولة وشغلها عن مقاومة عملية التفتيت الداخلية. وواقع ثورات الربيع العربى وتعثرها خاصة فى مصر؛ هو هذا التهاون. فهل سيعيد التاريخ نفسه لجهلنا وتجاهلنا؟. 6-أما الرسالة الأخيرة؛ هل من الممكن أن تنضج إرادتنا الوطنية فنختار زعامات تحكم البلاد وتنضبط أخلاقياً بميراثنا الحضارى الإسلامى؛ فتخشى الله فينا وفى بلادنا؛ فتصرخ فيمن بغى وظلمنا: أنت الذى أحوجتنى؟!. د. حمدى شعيب [email protected]