تساءل الدكتور أحمد عبدربه، مدرس العلوم السياسية بجامعة القاهرة، عن أسباب التحولات السياسية للنخبة وقادة الرأي العام في الفترة الأخيرة، مشيرًا إلى أن أغلب التفسيرات تقول إن هذا التحول هو نتيجة انعدام الأخلاق أو السعي وراء السلطة ونفاقها بحثا عن المكاسب. وقال "عبدربه"، في مقال نُشر له في جريدة "الشروق" بعنوان "لماذا يتحولون؟": "لماذا تبكى إحداهن على أخلاق المجتمع المتدهورة لأنها سمعت أحدهم يشتم بينما هي نفس الشخصية التي وقفت مؤيدة لعمليات القتل الجماعي واستباحة الدماء في الميادين؟ لماذا يتحول عالم في علم النفس إلى داعية لعسكرة المجتمع، مطالبا بتجنيد الأطفال الصغار في سن الحضانة، باعتبار أن ذلك فيه خلاص المجتمع؟". وأوضح "عبدربه" وجهة نظره حول دوافع هذا التحول، مؤكدًا أن هناك أسباب أخرى قد تقف وراء هذه التغيرات وقد تعلمت السلطة عبر سنواتها الطويلة، كيف يمكن استخدامها لأكل لحم كتف النخب والجماهير على السواء، والتي كتبها على النحو التالي: التقدم في العمر يتحولون بسبب "العمر"، صحيح أنه لا يمكن التعميم، وصحيح أن العديد من "كبار السن" مازالوا قادرين على تقديم أفكار وأطروحات أكتر تقدمية وتحرر من الكثير من الشباب، إلا أن الغالب على كبار السن هو الاتجاه إلى المحافظة الفكرية والمجتمعية والسياسية. كبر السن يرتبط عادة بمفهوم "التقاعد" والبعد عن الأعين، أعين السلطة والجماهير معا، كما أنه يرتبط بلحظة الشجن والحنين إلى الماضي وإنجازاته، أن تدفع بك السلطة إلى مقاعدها أو يدفع بك الإعلام إلى الأضواء، أو حتى أن يقدم لك الحاكم حكاية "مزيفة بالضرورة" عن إمكانية العودة إلى الماضي، أو بعبارة أخرى إعادة استنساخ الماضي في الوقت الحاضر، فهي بالضرورة تجذبك لترديد أساطير قديمة على أنها حقائق جديدة يمكن تبنيها. الخوف يتحولون بسبب "الخوف"، ولعل الدراسات الأكاديمية العربية مازالت في رأيي لم تول اهتماما كافيا بشعور "الخوف" كمحدد للسلوك السياسي بعكس الدراسات الغربية، والتي أولت اهتماما أكبر باستغلال السلطة لحالة "الخوف". وهو ما يدفعها نحو حالة "هيستريا" مكتملة الأركان لدفع الناس بعيدا عن العمل العام وتفويضهم السلطة للقيام بمهام حماية الوطن أو التأثير على قدراتهم العقلية لاتخاذ مواقف رشيدة ومتسقة بشأن الأوضاع الحالية. الجنس تأكل السلطة لحم الكتف من ناحية "الجنس". فقبل أكثر من قرن من الزمان كتب جوستاف لو بان كتابه الشهير "سيكولوجية الجماهير" وترجمه للعربية هاشم صالح وصدر عن دار الساقي في بيروت عام 1991، وخصص فصلا فيه عن الطريقة التى يسوق بها الإعلام القائد للجماهير باعتباره "ذكرا فحلا" فيراه العديد من المكبوتين أو غير الراضين عن حياتهم الجنسية بديلا وقائدا وأسطورة جنسية مناسبة، تعوضهم نفسيا عما فقدوه في حياتهم الحسية. الضعف البشري يتحولون بسبب "الضعف البشرى"، تعرف السلطة أن أي بشر ضعيف بالضرورة أمام شهوات كثيرة، مادية أو معنوية، ومن هنا وبقدراتها على التجسس والتصنت بعيدًا عن القانون على حياة الناس، تتمكن من تسجيل "فضائح" عليهم لمساومتهم لاحقا، فإما الخرس عن الأوضاع غير العادلة أو فضح الأسرار. ولأن الجماهير عادة لا تريد أن تتفهم أن ملهميها الأبطال هم في النهاية بشر، فهم لا يتقبلون إلا أن يروهم في أوضاع كاملة كالرسل والأنبياء، ومن ثم ففضح هؤلاء الملهمين يكون بمثابة تحطيم أسطورتهم إلى الأبد، فيقرر الآخرون الانصياع لمساومة وابتزاز السلطة عادة. الشهرة يتحولون بسبب "الشهرة"، فهؤلاء الباحثون عن الشهرة بأي ثمن ما أسهل التهامهم وتدجينهم بواسطة السلطة. مهمة سهلة وسلسة وبسيطة، إذا أردت أن تظل محل أنظار الجماهير عليك أن تدرك معادلة السلطة الحالية، وإذا ما تغيرت المعادلة، فعليك أن تعرف كيف تغير دفتك بحرفية للتماهي مع السلطة الجديدة ومعادلاتها، فمغازلة الإسلاميين لها وقت، ومغازلة العلمانيين لها وقت. كذلك الحديث عن الدولة المدنية له وقت، والحديث عن عسكرة الدولة كضرورة وطنية ملحة لها وقت آخر. الديمقراطية والثورة والعدل والحرية لهم موسم، والسلطوية والاستبداد والأمن القومى لهم مواسم أخرى، وجه بوصلتك ناحية السلطة أينما رست، وستظل محل أنظار الجميع ومحل إعجابهم. الدين يتحولون بسبب "الدين"، فمهما فجرت السلطة في تخطي كل القيم الإنسانية أو الأخلاقية، إلا أنك تجدها هي وكل المعبرين عنها والمساندين لها في حالة تدين دائمة، فهي السلطة التي تحج، هي السلطة التي تعتمر، هي السلطة التي لا تتوقف أبدا عن ذكر الله، عن ترديد الأدعية والآيات والتراتيل، عن تذكيرك بالأحاديث، عن استغلال المناسبات الدينية وتحويلها إلى موالد لإظهار مظاهر التقى والورع. هي السلطة التي تهادى وتتهادى بنسخ من الكتب المقدسة، هي سلطة "جمعتكم مباركة"، هي السلطة التي تدعوك إلى قراءة سورة الكهف في أيام الجمع، هي السلطة التى تدخل إلى حجر النوم لضبط علاقات الناس الخاصة لإرضاء الرب، وهى أيضا السلطة التي تقتل وتعتقل وتعذب وتحرم الناس من أبسط حقوقهم المدنية والجنائية ثم تجد دراويشها يرددون "بارك الله فيكم". لقمة العيش يتحولون بسبب "لقمة العيش"، إذا أردت أن تعيش مستورًا في بلادنا فعليك إذن أن تعيش "موظفا"، أن "تأكل عيشا"، ألا تتخطى الخطوط الحمراء. في أي موقع في الدولة عليك أن تكون مطيعا حتى تحافظ على موقعك وعلى امتيازات قد تتكرم السلطة عليك بها، ينطبق هذا على موقع الخفير والوزير لا فرق، هل تملك رفاهية معارضة السلطة أو الحديث بعكس منطقها؟ حسنا إن كنت تملك هذه الرفاهية فلتضع أكل عيشك وأمنك ومستقبل أولادك وأسرتك وسمعتك على المحك، لنرى من سيضحك أخيرا.