أخيرا ، أصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي قرارا بالعفو عن مائة سجين سياسي ، من شباب ثورة يناير الذين تم القبض عليهم وسجنهم لتظاهرهم خلال العامين الماضيين ، ومن بين من صدر قرار العفو عنهم بعض الشخصيات ذات الحضور بين شباب الثورة ، مثل يارا سلام الناشطة والمخرجة وسناء سيف شقيقة علاء وكذلك الشاعر عمر حاذق ، الذي فجر قضية الفساد في مكتبة الاسكندرية ، والتي ما زال القضاء ينظرها حتى الآن منذ أكثر من ثلاث سنوات ، دخل عمر السجن عقبها وقضى سنوات وشهورا ثم خرج من السجن والقضية الأساسية لم تنته ، ويا عالم ! ، كذلك شمل العفو الرئاسي صحفيي قناة الجزيرة القطرية المتبقين ، محمد عادل وباهر محمد ، وكانت الأخبار الأولى تتحدث عن العفو عن محمد عادل فقط الذي يحمل الجنسية الكندية ، ثم صدر بيان من الرئاسة بعد ساعات يقول أن العفو يشمل أيضا باهر محمد . الخبر مبهج ، على ضآلته ، لكن أي سجين رأي يظل ذكره علقما في الحلوق والضمائر ما ظل في السجن ، بقدر ما يظل سجنه أيضا ملهما لآخرين بالكراهية للنظام الذي سجنه ويتعنت في الإفراج عنه ، ولذلك يكون الإفراج عن سجين واحد فقط مدعاة للبهجة والسرور ، والفرح بنيله حريته المستحقة ، والفرح بسعادة أهله وأحبابه بخروجه ، خاصة إذا كنا في مثل هذه الأيام الطيبة والناس مقبلة على العيد ، ويبقى بعد الفرحة بحرية هؤلاء أن نتذكر أن هناك عشرات الآلاف من المصريين يقبعون خلف السجون وفي الزنازين المعتمة وفي أقسام الشرطة ومراكز الاحتجاز المختلفة ، لأسباب تتعلق بمواقفهم السياسية وآرائهم أو تظاهرهم من أجل قضايا يرونها مشروعة ، وأن هذه الآلاف تشحن صدور ملايين آخرين ، من محبيهم أو مؤيديهم أو أهليهم أو أصدقائهم أو المؤمنين بقضاياهم ، تشحنها بالغضب والكراهية والتحدي ، وهو ما يجعل البلد تدور في حلقة مفرغة من العقاب الجماعي والكراهية الجماعية بلا أفق ولا نهاية . اللافت في القرار الرئاسي ملاحظتان ، الأولى أنه صدر بشكل مفاجئ وبدون الإعلان عنه مسبقا ، وهذه مفارقة غريبة ، لأن إعلان الرئاسة ذاتها تكرر في الشهور الماضية عن قرارات بالعفو في مناسبات مختلفة وامتلأت الصحف والفضائيات بالاحتفالات للقرار طوال أيام ، ثم يفاجأ الجميع بأنه لم ينفذ أو تم التراجع عنه أو ربما احتمالات أخرى أكثر بؤسا وإحباطا لسبب عدم تنفيذ "قرار رئاسي" ، وفي هذه المرة ، صدر القرار فجأة وقبل العيد بيوم واحد ، ويا مسهل ، نأمل أن تنفذ الجهات المعنية القرار الليلة ، ويصل هؤلاء "الأحرار" إلى بيوتهم وأحضان أهلهم ليلة العيد ، والسؤال هو : لماذا لم يعلن الرئيس عن نيته قبل ذلك كما فعل من قبل ، وهل أصبح يتشاءم من الإعلان قبلها ثم يعجز عن التنفيذ أو يتراجع ، الله أعلم . الملاحظة الثانية ، أن القرار صدر قبيل سفرة الرئيس إلى نيويورك مباشرة ، بيوم واحد ، للمشاركة في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة ، وبالمناسبة ، كان الإعلان عن قرارات العفو السابقة التي لم تنفذ يسبق أيضا سفر الرئيس خاصة إلى نيويورك ، وهو ما جعل البعض يربط بين العفو والسفر أو مواجهة العالم الخارجي في محفل دولي كبير ، وأن قرار العفو قصد منه تخفيف الضغط السياسي والحقوقي والإعلامي الدولي عن الرئيس والنظام ، وليس مبادرة إنسانية خالصة . على كل حال ، خطوة في الاتجاه الصحيح ، أو إن شئنا الدقة : تصحيح سياسي لأخطاء سياسية ، وأتمنى أن تكون فاتحة شهية "إنسانية" للسيسي تجاه قرارات أوسع وأشمل ، لآلاف المسجونين الذين اعترف هو نفسه بأنه مدرك أن بينهم أبرياء ، قرارات تنهي الاحتقان في الوطن وتخفف الضغوط والتشنجات السياسية وتقلل من الانقسام المجتمعي إن لم تنهه تماما ، غير أن هذا المسار يحتاج إلى مستوى أعلى من الشجاعة السياسية والثقة بالمستقبل ، فهل هذا متوفر الآن في مصر .