من المرات النادرة التى أقف فيها من مجموعات أحداث ومواقف، على الساحة السياسية الوطنية حائرًا فى تفسيرها، حيث أجد لكل وجه من وجوه التفسير ما يؤيده، وهو الوضع غير المتسق مع الحقيقة لأن الحقيقة لها وجه واحد، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالوطن... فالبداية، كانت من اعتصام أمام مجلس الوزراء، وهو الأمر الذى كتبنا عنه بعين لا ترضى بما يحدث، على أساس أن من حق أى مواطن أن يعلن اعتراضه وفكره ورأيه ويتظاهر لإعلان ذلك، لكنى لا أتفق مع فكرة الاعتصام، وهو أيضا ما عبرت عنه من قبل معتبرا إياه "احتلالا" لموقع هو ملكنا جميعًا، واحتلال مجموعة له، هو اغتصاب لحقى وحق ملايين الناس، فما بالنا لو كان هذا المكان هو مركز قيادة الدولة، الذى يجتمع به أكثر من ثلاثين وزيرًا لتسيير أمور مئات الملايين من أبناء هذا الوطن؟ ويخرج هذا وذاك من المعتصمين، ليقول: لا نريد الجنزورى!! لكن ما قولك – مثلا- فى أن واحدًا مثلى لا يعترض على الجنزورى، وأعرف أن هناك ملايين مثلى ترضى به، ومع ذلك فسوف أفترض أننى وحدى وأن من يشاركنى لا يقل عددهم عن عدد من لا يرضون بالرجل، فأى الرأيين نطبق؟ وهل نقوم نحن أيضا بالذهاب إلى مقر مجلس الوزراء لإعلان احتجاجنا؟ لقد كان ذلك مفهومًا قبل يناير الماضى حيث منافذ التعبير عن الرأى كانت مسدودة، فلا يجد البعض من وسيلة غير الشارع، لكن الآن هناك عشرات الصحف والمجلات، وعشرات القنوات الفضائية، لا رقيب عليها، تفتح أبوابها لكل صاحب رأى، بل إن القنوات التليفزيونية الرسمية، تذيع لبعض يهاجمون المجلس العسكرى، آفما وجه الحاجة للاعتصام؟ قالوا: إنهم لا يستجيبون لما يرون، وأعود للتساؤل: وماذا عن رأى مثلى ممن يرضون عن الرجل؟ إننا أمام شكل جديد من ديكتاتورية جديدة، هى ديكتاتورية الشارع، وسامحك الله يا دكتور عصام، عندما كنت ترى مجموعة يقطعون الطريق، لا تنهرهم لأنهم يعطلون مصالح ملايين الناس، وتبعث إليهم بمن يطبطب عليهم...وتسمع عمن يتهجمون على رؤساء مصالح ومديرى هيئات، فتبعث إليهم بالبسكوت، زارفًا الدموع لرقة حالهم..وهكذا، حتى غابت الفروق الدقيقة بين الحق والباطل، وبين الثورة والبلطجة، وبدأ كثيرون يُلبسون الحق بالباطل ويكتمون الحق وهم يعلمون!! وزارة تشكلت وحلفت اليمين، وتريد ممارسة تسيير مصالح مئات الملايين من المصريين، فإذا بفريق يمنعهم من ذلك، ويظل رئيس الوزراء لا يستطيع أن يدخل مكتبه..فى شرع أى ثورة يحدث هذا؟ إن الوزارة عمرها لن يزيد عن ستة أشهر، فهل نجرب واحدًا آخر فى ظرف شهر؟ ويتغير الوزراء ليبدأ كل واحد يدرس أحوال وزارته ليرى أى سياسة سوف يتبعها، حيث تكرر هذا أربع مرات منذ آخر يناير حتى الآن، فهل يمكن أن تستقيم أمور دولة بهذه الصورة؟ تم إعلان المطالب الأساسية فى 18/11، وبالفعل أعلن المجلس العسكرى خارطة طريق لانتخابات ودستور، ورئاسة، خلال ستة أشهر، وأنهينا بنجاح لا مثيل له مرحلتين من الانتخابات، فهل يمكن أن نصدق أن من يسرع ، "بضرب كرسى فى الكلوب"، يحمل قلبًا ينبض بحب هذا الوطن وهو يسرق فرحتنا؟ وكأن هناك من تتقطع قلوبهم كلما رأونا نعبر مرحلة بنجاح ونبدأ فى الشعور بالفرح، فيطوحون بكرسى فى الكلوب حتى يسود الظلام، وتنقطع الزغاريد، ويعلو صوت النحيب والبكاء ولطم الخدود!! بل إننى كثيرًا ما ساءلت نفسى: هؤلاء المعتصمون، أسابيع وراء أسابيع، هم إما طلاب أو عاملون أو عاطلون؟.. إن كانوا طلابًا، فهل لا يذهبون إلى معاهدهم؟ هل لا يذاكرون؟ وإن كانوا عاملين، فكيف تركوا عملهم، ومن أين يأكلون ويشربون ويقضون حاجتهم؟ أم الحقيقة أنهم متعطلون ووجدوها فرصة للتنفيس عما تجمع فى قلوبهم من سخط تبذره البطالة، ويزرعه الفراغ؟ حكى لى صديق أن قريبة له متزوجة من واحد ما أن يسمع عن تظاهرة أو اعتصام حتى يسارع إلى المشاركة، تاركًا ابنه الرضيع وزوجته التى لم يمر على زواجهما إلا أقل من عامين، دون أن يحفل برعاية أسرته الصغيرة ويدبر لهما ما يتعيشون به..وهو يعلم أن من تعاليم رسول الله: أن العمل على سد رمق أهل المسلم، وحمايتهم ورعايتهم صورة من صور الجهاد!! من حق كل مواطن ألا يرضى عن هذا وذاك ممن يحكمون، ويعبر عن ذلك، لكن بغير اعتصام وقطع طريق.. وفى الوقت نفسه، ليس من حق مخلوق، أيا كان، أن يقذف بحجر شأنا يخص جموع المصريين، حتى ولو كان مجرد حائط، لأنه جزء من ثروة الوطن، بنيناه بدمائنا وعرقنا ودموعنا والملاليم التى فى جيوبنا...والذى يهدم ويخرب جزءا من ثروة الوطن، يستحيل أن يكون ثائرًا بالمعنى الحقيقى...فملايين من المواطنين، لم يجتمع مثلها من المصريين الثوار الحقيقيين، تجمعوا فى الفترة من 25 يناير إلى 11 فبراير، ولم يقذف أحد منهم مبنى بحجر واحد، على الرغم من أنهم هُوجِموا بضراوة من داخلية العادلى، وقامت فى وجوههم موقعة الجمل الشهيرة..هؤلاء هم الثوار الحقيقيون! فماذا لو كان الذى وقع عليه التدمير مالا عامًا؟ وماذا لو كان الذى وقع عليه التدمير والحرق، ذاكرة مصر المتمثلة فى المجمع العلمى؟ أذكر هذا وقلبى مازال يتمزق، فأنا عضو بهذا المجمع الفريد فى نوعه بين الأمم، وما دخلته مرة إلا وامتلأت نفسى إعجابًا وتقديرًا لهذا الصرح العلمى الذى لا مثيل له، فما ذنبه؟ قامت فى القاهرة فى 26 يناير 1952 حرائق ضخمة فى أنحاء شتى..لكنها لم تقرب أبدا من مال عام: ركزت على المتاجر الأجنبية، ودور السينما، والملاهى، وبعض الفنادق، وإن كنا أيضا لا نرضى بهذا، فهل ثوار يناير 1952، كانوا أكثر وعيًا وفهمًا ووطنية من ثوار يناير 2011؟! كان الحلفاء الغربيون يدكون ألمانيا فى الحرب العالمية الثانية، حيث قتل ملايين الناس، لكنهم كانوا حريصين أشد ما يكون الحرص على عدم تدمير مكتبة ألمانية أو أثر تاريخى، لأن مثل هذا وذاك ليس ملكًا لوطن فحسب، بل هو ملك للبشرية والأجيال القادمة والسابقة.. وجاء العرب المسلمون يفتحون مصر، ولم يكن لهم عهد بمظاهر الحضارة على وجه العموم والحضارة الفرعونية على وجه الخصوص، وكانوا مأمورين بألا يعبدوا الأصنام، بل وإذا رأوها لابد من تحطيمها...لكن هؤلاء البدو الآتين من أعماق الصحراء، لم يهدموا حجرًا واحدًا من التماثيل والمعابد والأهرامات، فعبروا بذلك عن مستوى من الوعى والرقى افتقده أحفادهم بعد عشرات القرون، وقد غمرهم التقدم العلمى والتقنى!! لم نعد أمام ثورة بقدر ما أصبحنا أمام فوضى..!! وهؤلاء السادة "فلاسفة الفضائيات" الذين صدعونا بمناقشات بيزنطية فارغة، بثوا من خلالها صور تقاتل وتنازع وفُرقة..ولو ركزوا جهدهم لمناقشات تدور حول برامج اقتصادية، أو تعليمية، أو زراعية، أو صناعية، أو تجارية، أو ثقافية، أو فنية، لقاموا بالدور الحقيقى للمثقفين: نوّروا الناس، وجمّعوا بينهم..لكنهم خانوا رسالتهم.. ونريد من ناحية أخرى، أن نوجه كلامنا إلى من يحكمون: ألم يلحظ أحد هذا السيناريو المتكرر: أحداث أطفيح.. مسرح البالون..إمبابة...السفارة الإسرائيلية..ماسبيرو، مرتان..محمد محمود..ميدان التحرير عدة مرات..تسير الأمور بشكل سوى...ثم، فجأة تظهر الأسلحة البيضاء والعصى والشوم والجنازير، وقنابل المولوتوف، ويحدث التدمير والتخريب، ونقول: إنهم البلطجية.. ويتم الإعلان عن "عناصر مندسة" وأصابع خارجية!! وهنا أقولها بكل صراحة: إن الشك بدأ يغزو قلبى وعقلى: كيف لإدارة دولة بحجم مصر، تعجز عن العثور على ما يكشف الحقيقة، حيث، يرددون فى كل حدث أنه يتم التحقيق فيه، ولم نر نتيجة، منذ موقعة الجمل حتى الآن!! إن القاصى والدانى يعلم علم اليقين أن هناك عدة قوى لا يسعدها أبدا نهوض مصر، ويسعدها أن تراها تحترق: إسرائيل، والولايات المتحدة، وبكل صراحة، قوى عربية، تريد أن تستمر مصر على ضعفها، حتى يبدو الأقزام عمالقة، وتظل مصر مجرد "سوق كبير" لتوريد البشر، بأرخص الأثمان، وفى ظل أسوأ الظروف. وفضلا عن ذلك، فمن المعروف أن هناك فئة الذين كانوا ينتفعون بما كان يتيحه لهم النظام السابق من نهب وسرق وسلطة وطغيان، ومثل هؤلاء ليس من العسير أن يعملوا لحساب، هذه القوى الخارجية، أو لمصلحتهم الخاصة. فأين نتيجة التحقيقات؟ وإذا كنتم قد عجزتم عن معرفة الفَعَلة الحقيقيين، فمن الأكرم أن تغادروا مواقعهم، إعلانًا لفشلكم!