قبل حوالي شهرين التقينا ، كنا ظهر الجمعة ، ومكتب "المصريون" قريب من مقر نقابة الصحفيين حيث أتى من جهته ، صافحته وسألته : إلى أين ؟ قال أبحث عن مسجد أو زاوية نصلي الجمعة ، قلت : وأنا كذلك ، ومضينا نبحث في الشوارع الصغيرة القريبة عن زاوية أو مسجد ولم أتطوع بدعوته للمسجد الذي اعتدت عليه ، فوجدنا زاوية صغيرة لا تتسع للمصلين فافترشوا حصيرا بلاستيكيا فقيرا في الشارع ، فخلع حذاءه وجلس بجواري في سكون وخشوع ، صلينا ثم خرجنا سويا وسألته ممازحا : يا عم حلمي انت مزعل الناس منك ليه ، قال لي : الإخوان هما اللي زعلانين ، فقلت : لا ، بل كل التيار الإسلامي وحتى بعض الناس العاديين ، وأضفت : أنا أعرفك من سنوات ولكن ليس كل الناس تعرفك ، وبعض تصريحاتك يساء فهمها ، وخاصة عندما تتحدث عن العلمانية ، وأذكر أن فيديو قصيرا لك انتشر قبل سنوات وأثار ضجيجا ، ثم سألته عما يشغله حاليا فقال أنه مشغول بمشروع ضخم لتوثيق تاريخ مصر الحديث ، فنصحته أن يصنع شبكة اتصال وثيقة بأقسام التاريخ في كليات الآداب على مستوى جامعات البلد كلها ، لأن هناك طاقات مهدرة فيها ويمكن أن تعينه وتختصر له الوقت والجهد ، فوافقني ، ثم افترقنا . الصديق حلمي النمنم الذي فوجئت باختياره وزيرا للثقافة في الحكومة الجديدة ، ليس بدعا من الأمر في النخبة المصرية ، أعرف حلمي من سنوات طويلة وبيننا صداقة ، هو علماني لا يخفي ذلك ، ويعرف أني على خلاف معه في ذلك ، ولكن بقي بيننا الاحترام ، ورغم بعض عباراته المستفزة ، إلا أن حلمي ليس من الشخصيات العدوانية أو المخاصمة للدين ، أشهد له بذلك ، ولكن فهمه للعلمانية هو جزء من خصومة سياسية مع التيار الإسلامي والأحزاب التي يصفها بالدينية ، وله مشكلة خاصة مع الإخوان المسلمين ، واقعا وتاريخا ، كما أن لديه وعيا مغلوطا بموضوع السلفية ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ناتجة عن قلة اطلاعه على تراثها وظنه أنها هي جذر جماعة الإخوان ، وبالمناسبة كثير من النخبة المصرية لديها تلك السطحية في فهم تعقيدات الحالة الإسلامية في الخليج خاصة ، وأحيانا أستشعر أن مرارته هي ميراث من الخصومات الفكرية التي امتزجت بعنف في بعض الأحيان ، على النحو الذي حدث مع الأديب الراحل الكبير نجيب محفوظ ، وهي واقعة عمقت مشاعر الخوف والكراهية معا تجاه التيار الإسلامي بدون تفريق أو تمييز ، ولذلك انزعجت كثيرا من الهجوم الذي بدأه إسلاميون على وزير الثقافة الجديد ، والذي وصل إلى حد اتهامه بالإلحاد ، هذه مجازفات وانفلات أعصاب وأفكار ليست سديدة ولا مشروعة ، فحلمي النمنم أرفع خلقا من كثير ممن سبقوه في هذا الموقع ، وهو متدين بالصيغة الشائعة في عوام المصريين وأبناء الريف بشكل خاص ، وهو ريفي الطابع والسلوك ، كما أنه على المستوى الإداري والإنساني نظيف ويتميز بالشفافية . أقول هذا الكلام لأني لاحظت أن كثيرا من الإسلاميين انشغلوا بوزير الثقافة الجديد وعلمانيته ، وكأن بقية الحكومة من ميراث الخلافة الراشدة ، هذا ضلال سياسي متكرر مع الأسف ، تسبب في كوارث سياسية للتيار الإسلامي على مدار العقود الماضية ، لأن الحساسية المفرطة لبعض الشعارات أو المصطلحات يمكن أن تسحبه بسهولة إلى خوض معركة استنزاف طويلة في أمور لا تستحق ومع أحوال أو أشخاص لا تستحق كل هذه المعارك ، بينما الأمور الأهم والأكثر خطورة تسير برتابتها المعتادة ، في الاقتصاد والسياسة والتعليم والعدالة وبقية ما يمثل "جوهر" الدولة وقوامها . الحكومة الجديدة هي عمل عشوائي بحت ، لا معنى له ، لا في الاختيار ولا في الهدف ، ومن يقرأ تصريحات رئيس الوزراء الجديد عن تكليفات الرئيس له سيدرك أنه أمام كلام مائع لا يحمل أي رؤية ، من متابعة المشروعات الكبرى ورفع معدلات التنمية وإنجاز الانتخابات ، كما أن عصب حكومة محلب بكاملها أعيد انتاجه ، لدرجة أن السؤال أصبح ضروريا بالفعل : لماذا أقيلت حكومة محلب إذن ، من أجل تغيير وزير البيئة أم من أجل أن تلغي وزارة التعليم الفني التي اخترعتها قبل ستة أشهر ، فلا يعرف الناس لماذا اخترعتها ولا لماذا ألغيتها ؟! ، ولا تفهم شيئا من إعادة تكليف وزراء كانوا في عهد مبارك وآخرون في عهد المجلس العسكري وآخرون كانوا في عهد مرسي ، فعشوائية الاختيار شعار مرحلة ، كما تم إعادة "تدوير" إبراهيم محلب بتعيينه مستشارا للرئيس للمشرعات الكبرى ، فلا تدري هل هي ترضية أم اعتذار عن خطأ إقالته بدون سبب أو معنى . باختصار ، الحكومة الجديدة هي شاهد جديد على أن مصر تقاد الآن بدون رؤية واضحة ولا سياسة محددة ، كما أن إعادة انتاج الأسماء القديمة وإعادة تكليف السابقين يعني أن مساحة الاختيار أمام السيسي لرجال الدولة ضاقت جدا ، إما لغياب الثقة وإما لانتشار حالة التوجس والقلق لدى "الأجهزة" من المغامرة بترشيح بكفاءات جديدة مهما كان ولاؤها ، سياسة مختنقة ، سياسة كئيبة .