الرجل كالصخر صلب لا يبكي!.. دموع الرجل دماء!.. دموع الرجل لؤلؤة ثمينة!.. بكاء الرجل ضعف وانكسار!.. هذا ما تزرعه كثير من الأسر العربية داخل أبنائها الذكور منذ نعومة أظفارهم، للتأكيد على أن البكاء يتنافى والرجولة والقوة والجدية التي ينبغي أن يكون عليها الرجل!.. وذلك بخلاف المرأة التي تبكي كثيرا لأسباب متعددة لكونها ضعيفة شديدة العاطفة وسريعة التأثر.. وكأن الرجل مجبول على الجفاء وقسوة وتحجر المشاعر لا يتأثر بما يدور حوله ولا يعجز في كثير من الأحيان عن التعبير عما يعتريه من مشاعر مختلفة فيبكي دون تعمد عند الحزن الشديد والفرحة العارمة.. وكأنه ليس بشرا يضعف أحيانا، ويتعرض للظلم والقهر والانكسار والهزيمة وفقد الأحباء وضيق ذات اليد أحيانا..
لماذا ينكرون على الرجل البكاء، ويعتبرونه أمرا معيبا وشائناً وضارا بصورته؟!.. أليس الرجل إنسانا له قلب ومشاعر وأحاسيس تتأثر إيجابا أو سلبا بكل ما يتعرض له في مشوار حياته؟!..
الحيوان يبكي إذا رأى صغيره يموت أمام عينيه ويقف حائرا مكبلا لا يستطيع فعل أي شيء فيبكي حزنا وألما.. فما بالنا بالإنسان الذي كرمه الله على سائر الكائنات وخلقه في أحسن تقويم.. ليس غريبا أن يبكي الرجل ورسولنا محمد عليه الصلاة والسلام أفضل الخلق قد بكى في مواقف كثيرة، بكى عليه السلام عندما بلغه نبأ مصرع قادة مؤتة الثلاثة، وحزن عليهم حزنًا لم يحزن مثله قط، ومضى إلى أهليهم يعزيهم ولما بلغ بيت زيد بن حارثة لاذت به ابنته الصغيرة وهي مجهشة بالبكاء فبكى عليه السلام حتى انتحب، فقال له سعد بن عبادة: ما هذا يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: هذا بكاء الحبيب على حبيبه.
وكان بكاء الرسول صلى الله عليه وسلم رحمةً للميت تارة، وخوفاً على أمته وشفقة عليها تارة، وخشية لله تارة أخرى، حتى إذا ما قرأ القرآن أو قرئ عليه أخذته العبرة والخشية والبكاء تعظيما لكلام الله وخوفا منه.. وقد تم ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مواقف عدة منها هذا الموقف: قال ابن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إقرأ علي فقلت يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزِل؟ قال نعم إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا" فقال حسبك الآن فإذا عيناه تذرفان بالدموع، رواه البخاري ومسلم.
ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يحفرون قبرا لدفن أحد المسلمين وقف على القبر وبكى ثم قال: (أي إخواني، لمثل هذا فأعدوا)... وقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال زار النبي قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فغلبت الرسول الكريم عاطفة الابن لأمه فبكى ذلك البكاء الشديد... وبكى عندما وقع أبو العاصي أسيرا في أيدي المسلمين بعد إحدى الغزوات -وكان على الشرك آنذاك- وكان زوجا لزينب رضي الله عنها ابنة الرسول الكريم وكان الزواج من المشركين لم يحرم بعد فجاءت زينب لتفدي أبا العاصي ولم يكن معها مالا فأتت بقلادة ورثتها من أمها خديجة رضوان الله عليها، فعندما رأى الرسول هذه القلادة تذكر خديجة الزوجة الصالحة المخلصة الوفية فبكى في هذا الموقف.
إذن البكاء ليس مقصورا على النساء فحسب، ولا ينتقص من قدر وهيبة الرجل على الإطلاق، بل يعتبر دليلا دامغا على إنسانيته وبشريته وسلامة فطرته ومشاعره التي حينما تصل لذروتها تدفعه إلى البكاء حيث لا تجدي وقتها أي وسيلة تعبير أخرى.. البكاء نعمة عظيمة تريح النفس وتساعد الإنسان رجلًا أو امرأة على التفريج عن مكنونات الأنفس فعدم البكاء ليس معيارا للرجولة والبكاء ليس معيارا للأنوثة.. اللهم ارزقنًا قلوبا خاشعة وألسن ذاكرة وعيونًا دامعة.