قبل ثلاثة أيام ، كتبت في هذه الزاوية مقالا عن شخصية رئيس الوزراء المهندس إبراهيم محلب ، بعنوان "إحراج محلب في تونس" ، وأبديت تعاطفا معه ومع جهوده في العمل المكلف به رغم أي تحفظ وقدمت مبررات هذا التعاطف في ظل الظروف التي يعمل فيها الرجل وحسابات القوة وعواقب المغامرة أو حتى الابتعاد ، وكنت في المقال كمن يكتب "مرثية" في وداع الرجل ، وختمت المقال بالإشارة إلى أن أيامه في الوزارة أصبحت معدودة ، وقلت ما نصه : (المهندس إبراهيم محلب رئيس وزراء فترة انتقالية ، ومرحلة شغل الفراغ لتثبيت الوضع السياسي الجديد ، وإن كنت أعتقد أن التطورات الأخيرة في وقائع الفساد التي عصفت بوزراء في حكومته والإحراج الذي حدث له في تونس قد يقصرون من فترة بقائه ، وهي في كل الأحوال لن تطول أبعد من ديسمبر المقبل ، إذا كانت النوايا جادة لإنجاز الانتخابات البرلمانية ، وسيتم إقالته قبلها إذا كانت النية مغايرة) ، هذا نص ما قلته قبل ثلاثة أيام ، ويبدو أن الخيار الثاني أصبح هو المطروح ! ، وتمت إقالة محلب ، وليس استقالته ، فبلادنا ما زالت لا تعرف "ثقافة" الاستقالة لرؤساء الحكومات ، وإن كان الإخراج الإعلامي يقتضي الحديث عن الاستقالة ، بل كانت الإقالة مهينة أيضا ، حيث لم تستغرق المقابلة أكثر من عشر دقائق . تكليف السيسي لوزير البترول المهندس شريف إسماعيل بتشكيل الحكومة الجديدة هو ثالث قرار من نوعه خلال عامين ، هذه ثالث حكومة مصرية يتم تشكيلها خلال عامين فقط تقريبا ، منذ 3 يوليو 2013 ، وهذا يعطي انطباعا عن قلق سياسي أو عدم استقرار أو عدم وضوح الرؤية أو تكرار سوء الاختيار للقيادات الرفيعة في الدولة ، وهذه الاحتمالات والتقديرات كلها ليست في صالح السيسي بكل تأكيد ، ولذلك أستغرب جدا من سرعة اتخاذ قرار إقالة محلب وتكليف آخر بتشكيل الحكومة ، رغم أنه كان بمقدوره اتخاذه بشكل طبيعي وسلس وأقل كلفة سياسية بعد ثلاثة أشهر فقط ، حيث من الطبيعي والدستوري أن تتقدم الحكومة باستقالتها بعد انتخابات البرلمان الجديد ، إلا إذا كانت الرؤية المستقبلية تقول أن انتخابات البرلمان غير مؤكدة وربما غير مطروحة ، ولا أتصور أن قضية وزير الزراعة المقال هي السبب ، أو هي السبب الوحيد ، إلا إذا كان هناك بالفعل عدد كبير من الوزراء الحاليين متورطون في القضية وتشعباتها ، وأن تكليف حكومة جديدة أقل كلفة وأقل فضائحية من تغيير تسعة وزراء في الحكومة . أيضا ، فوزير البترول والمكلف بتشكيل الحكومة الجديدة لم يكن بعيدا عن "محمد فودة" المتهم المحوري في فضيحة وزارة الزراعة ، وفودة صديق لشريف إسماعيل ، وتحدث علنا عن أنه "يعرفه عن قرب" والتقى به مرارا وتغزل في قدراته وإمكانياته وتضحياته ، فلو كان الأمر لاستبعاد الشهبات لكان من الأولى البحث عن شخصية أخرى لا يكون لها أي وجه صلة برموز تلك القضية/الفضيحة ، أيضا ، ومن الناحية العملية ، فإن الأزمة التي أطاحت بالحكومة ، كانت متعلقة بقضايا الزراعة والأراضي المستصلحة التي تحول كثير منها إلى "ثروة عقارية" ، وهي القضية الأهم والأخطر للسيسي للسنوات المقبلة وربما مفتاح الإنقاذ لحكمه ، وتلك مسألة ثقيلة وقديمة ومتشعبة ، فما معنى أن تبحث عن حكومة يرأسها مختص بالبترول والثروة المعدنية . في كل الأحوال ، فالقرار الجديد الذي اتخذه الرئيس يمنحه فرصة تاريخية للتخلص من وجوه عديدة تمثل عبئا ثقيلا عليه ، وهو شخصيا الذي يدفع فاتورة الكراهية الشعبية لهم وتخصم مما تبقى له من رصيد ، بما في ذلك وزراء الأوقاف والعدل والتعليم العالي وآخرون ، كما أن بعضهم ليس بعيدا عن شبهات الفساد في قضايا أراضي الدولة تحديدا ، وبعضهم له ملفات عديدة في الأجهزة الرقابية وبعضها قيد التحقيق حتى الآن ، فما الذي يدعوه للاحتفاظ بهم ، ولذلك ، أعتقد أن قطاعا واسعا من الرأي العام المصري سيضع أسماء هؤلاء الوزراء على مرصد التحليل والتقييم للمرحلة المقبلة ، لأن ذهابهم يعني أن السيسي يفكر في صناعة مستقبل أقل فسادا وأكثر شفافية ، أما بقاؤهم فسيعطي الرسالة الواضحة بأن الدولة تتجه إلى الوراء ، وأن مسألة الانهيار ما هي إلا مجرد وقت .