كأنه تاريخ منقوش في الذاكرة المصرية، فما أن تمرّ في شوارع القاهرة، حتى تجد للآثار العثمانية موضع قدم يرجع لمئات السنين، ومحط إعجاب لدى مصريين أبهرهم الفن المعماري الذي تجلى في بناء المساجد والمقابر. الأناضول وفي جولة امتدت لأيام، زارت خلالها عدداً من المساجد العثمانية بالقاهرة يعود تاريخ بعضها لأكثر من 400 عام، و"مقابر الأتراك" التي تضم أكثر من 30 شاهداً، مكتوباً عليها أسماء نحو 4500 شهيداً، كانوا يحاربون على الجبهة الفلسطينية خلال الحرب العالمية الأولى 1914. وسط القاهرة القديمة، وفي شارع محمد علي، تتجلى رمزية وأصالة فن العمارة في مسجد الملكة "صفية" الذي أنشأه أحد مماليك الملكة التي سُمي المسجد باسمها، وهي زوجة السلطان مراد الثالث العثماني (تولى الخلافة عام 982 ه / 1574 م حتى وفاته 1595 م)، ووالدة السلطان محمد الثالث. يتكون المسجد من صحن مكشوف تحيط به أربعة أروقة تغطيها قباب محمولة على عقود ترتكز على أعمدة رخامية، وبالحائط الشرقي لهذا الصحن ثلاثة أبواب، أهمها الأوسط منها، تم تثبيت لوحة تذكارية فوقه كُتب عليها "هذا الجامع أنشأته والدة السلطان محمد خان، على يد إسماعيل أغا ناظر.. الوقف سنة 1019 هجرية". وتؤدى تلك الأبواب الثلاثة إلى حيّز مربع يبرز من جانبه الجنوب شرقي دخلة القبلة، وفي مقدمتها المحراب وإلى جواره منبر رخامي، ويغطى المربع قبة كبيرة في الوسط تحيط بها قباب صغيرة محمولة على عقود حجرية ترتكز على ستة أعمدة من الجرانيت. ويحيط بدائر رقبة القبة، شُرفة لها درابزين من الخشب الخرط، فُتح بها نوافذ من الجص المفرغ المُحلى بالزجاج الملون. وتقع "دكة الشيخ" فوق الباب الأوسط في مواجهة المحراب، وهى محمولة على عمودين من الرخام ولها درابزين من الخشب الخرط، وقد بُنى المسجد مرتفعًا عن مستوى الطريق، وواجهاته تسودها البساطة التامة، وأمام كل باب من أبوابه سُلم دائري ضخم، ومنارته على الطراز العثماني وهى إسطوانية، ولها دورة واحدة، وتنتهى بمسلة مخروطية. "نفتخر بوجوده في شارعنا".. بهذه الكلمات تحدث محمد حسين، الرجل الخمسيني ، أحد سكان شارع محمد علي، عن مسجد الملكة "صفية" بينما كان واقفاً في محيط المكان.
يقول حسين للأناضول "الناس هنا يعتبرون المسجد تحفة فنية رائعة، ويشعرون بالفخر لوجوده في شارعهم، وإن كان الكثير منهم لا يعرف من هي الملكة صفية". من شارع محمد علي، حطّ الرحال في شارع بورسعيد، بميدان باب الخلق القريب من متحف الفن الإسلامي، حيث مسجد "يوسف أغا الحين" الذي بُني عام 1035ه (1625م). ومسجد الأمير يوسف أغا الحين، أحد كبار أمراء الجراكسة (سلالة من المماليك حكمت مصر) الذي توفي عام 1646م، من المساجد العثمانية التي أُنشأت على الطراز المملوكى في كل عناصره، حيث الأواوين المتعامدة على الدرقاعة (الصحن)، والإيوان هو قاعة مسقوفة بثلاثة جدران فقط، والجهة الرابعة مفتوحة للهواء الطلق، أو قد تكون مصفوفة بأعمدة أو يتقدمها رواق مفتوح وتطل على الصحن أو الفناء الداخلي. الطلاب والباحثون في مجال الآثار بمصر، اعتادوا بحسب حديث عامل بالمسجد، أن يأتوا باستمرار لتصوير ما في المسجد من تحف فنية وتاريخية ، فضلاً عن المصلين الذين يتوافدون إليه في أوقات الصلاة. ويتكون المسجد من درقاعة مغطاه بسقف خشبى، يتعامد عليها إيوانين أحدهما جنوبى شرقى سُمي بإيوان القبلة الذي يحتوي على محراب بالرخام الملون، وعلى يمينه منبر خشبي به زخارف على شكل طبق نجمي، يقابله الإيوان الثانى وهو الشمالى الغربى وفيه "دكة المبلغ" التي كانت تُستخدم لترديد صوت الإمام، وترتفع أرضية كل إيوان عن أرضية الصحن التى يشرفان عليها بواسطة عقد مدبب. وتتعامد على جانبى الصحن سدلتان جانبيتان، بواقع سدلة لطيفة بالجهة الجنوبية الغربية، وأخرى بالجهة الشمالية الشرقية مقابلة لها. وهنالك السبيل الملحق بالمسجد والذي أقامه صاحب المسجد، يعلوه كتاب لتعليم وتحفيظ القرآن الكريم. وحجرة التسبيل مستطيلة ضلعها الأكبر يطل على شارع بورسعيد، وفيها نافذة واحدة تتقدمها من الخارج مسطبة يقف عليها المارة أثناء الشُرب، وبواجهة السبيل من ناحية اليسار مدخل مستقل مخصص للسبيل والكتاب. وعلى إزار بالقرب من سقف الحجرة، نص كتابي يبدأ بالبسملة ثم آية الكرسي، يتبعها أذكار دينية تنتهى بعبارة: "الحمد لله وحده وكان الفراغ في شهر رجب سنة خمس وثلاثين بعد الألف والحمد لله وحده". ( 1625م).
إلى الغرب من العاصمة، اصطحبنا أحد مفتشي الآثار، فضل عدم ذكر اسمه، حيث مسجدي "سنان باشا"، و"ميرزا" الكائنين في منطقة بولاق أبو العلا . والمسجد الأول الذي يجري تجديده حالياً من قبل وزارة الآثار، يُنسب ل"سنان باشا" أحد ولاة مصر العثمانيين، الذي أنشأه سنة 979ه/ 1571م. ويتكون المسجد من مساحة مستطيلة الشكل، تعلوها قبة منخفضة، ويحيط به من الجهات الشمالية والجنوبية والغربية، دهليز واحد، أما واجهته ففيها نوافذ مكونة من صف واحد، فيما تنتهي المأذنة بمخروط مدبب يشبه نهاية قلم الرصاص، وهو من طراز المآذن التركية. أما مسجد "ميرزا"، الذي أُنشئ بأمر من الأمير مصطفى بن الأمير يوسف جوربجي، عام 1698م، فهو عبارة عن مساحة مستطيلة يتوسطها صحن مربع يحيط به الأروقة من جميع الجهات. ويعد رواق "القبلة" هو أكبرها حيث يتكون من رواقين اثنين، أما الأخرى فتتكون من رواق واحد، وللأول محراب رخامي صدفي، ومنبر من الخشب النقي، ويحتوي أيضاً على حائط مكسو بالرخام الملون.
ويمتاز المسجد بمئذنة عثمانية مرتفعة، وهو من المساجد المعلقة حيث يتم الصعود إلى مدخلة عبر سلالم، أما الصحن فقد فُرش برخام ملون، وزخارف برسوم هندسية. وفي يونيو عام 2013 افتتح وزير الآثار المصري الأسبق، أحمد عيسي، مسجد "ميرزا" بعد الانتهاء من مشروع ترميم متكامل استمر العمل به أربع سنوات بتكلفة 27 مليون جنيه (3,44 مليون دولار) ، بحسب وزارة الآثار. وفي منطقة مصر القديمة (وسط)، يطل عليك مسجد "سيدى عقبة بن عامر"، الذي أنشأه الوالي العثماني محمد باشا سلحدار سنة 1066ه / 1655م، وسُمي المسجد باسم الصحابي عقبة بن عامر بن الجهنى، أحد ولاة مصر. والمسجد مستطيل الشكل، عبارة عن رواقين يتوسطهما ثلاثة عقود محمولة على عمودين من الحجر، أما سقفه الخشبي فقد زُخرف بنقوش ملونة. ويقع مدخله في الواجهة الغربية وهي عبارة عن حجر معقود وله مكلستان، وإلى يساره المئذنة وهي ذات قاعدة متوجة بمقرنصات، ومحلاة نواصيها بأعمدة متصلة، ثم شرفات تسير مع الواجهة، يعلو ذلك قاعدة المئذنة نفسها وهي مربعة تتحول إلى بدن مضلع مثل سائر المنارات العثمانية. وفي الركن الغربي القبلي للمسجد، تقع القُبة التي تحوي ضريح سيدي عقبة رضي الله عنه، وعليها مقصورة خشبية منقوشة من الداخل. وفي حديث معه، قال مسؤول حكومي مختص بالآثار في محافظتي القاهرة والقليوبية (شمالي العاصمة)، فضل عدم ذكر هويته، إن "الآثار العثمانية تعتبر جزء من تاريخ مصر الذي ليس من الممكن أن يتم تجاهله بل إن الدولة حريصة علي متابعته والحفاظ عليه". "مقابر الشهداء الأتراك".. هنا على طريق الأوتوستراد، في مدينة نصر، شرقي القاهرة، انتهت جولة الأناضول، حيث المكان الذي بدا وكأنه متنزه بفعل الألوان الزاهية التي شكلتها مختلف الأزهار والورود. مقابر محاطة بسور مرتفع يحجبها عن المارة، ويُرفع بها العلم التركي، وفي مقدمتها لافتة صغيرة موضوعة على بوابة تطل علي شارع جانبي كتب عليها باللغتين العربية والتركية "مقابر الشهداء الأتراك".
وتحوي المقبرة التي تُشرف عليها السفارة التركية لدى مصر، على مجموعة من الفُسْقيات (غرف لدفن أكثر من متوفٍ)، وأكثر من 30 شاهداً، مكتوباً عليه أسماء نحو 4500 شهيداً، كانوا يحاربون على الجبهة الفلسطينية خلال الحرب العالمية الأولى 1914.