يبدو أن احتفالات مملكة البحرين بالعيد الوطني الأربعين وعيد جلوس الملك حمد الثاني عشر لن تكون كسابقاتها ، حيث أن 2011 حمل الكثير من المفاجآت السارة لمواطنيها كان آخرها قرار إصلاح جهاز الشرطة ليتواكب مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان . ولعل القرار الذي أصدره الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء بشأن إحياء تلك الذكريات الغالية على نفوس مواطني المملكة يعكس بوضوح حرص المملكة على إظهار أنها في طريقها لتحقيق انطلاقة جديدة نحو المستقبل . وكان الشيخ خليفة أصدر مرسوما جاء فيه " بمناسبة العيد الوطني الأربعين وعيد جلوس الملك، تعطل جميع الوزارات والأجهزة الحكومية بالمملكة وهيئاتها ومؤسساتها يومي الجمعة والسبت الموافق السادس عشر والسابع عشرمن شهر ديسمبر، وإذ تصادف العطلة يومي عطلة أسبوعية فقد تقرر أن يعوض عنها بيومي الأحد والإثنين الموافق 18 و 19 ديسمبر ". ويبدو أن القرار السابق لا يخلو من مغزى واضح وهو إظهار أن تلك الذكريات ترتبط بإنجازات كبيرة في المملكة من شأنها أن تمنع رياح الربيع العربي من الامتداد إليها . فمعروف أن الملك حمد بن عيسى آل خليفة عمل منذ تسلمه مقاليد الحكم في 1999 على تنفيذ عمليات إصلاح شاملة حسب خطط مدروسة وثابتة بدأت باستفتاء على ميثاق العمل الوطني والذي نال ما نسبته 4ر98 بالمائة وألغى محكمة أمن الدولة وقانون أمن الدولة وأعاد المبعدين وقام بالعديد من الخطوات من أجل الديمقراطية والمشاركة السياسية ". بل وفاجأ الجميع بعد اضطرابات فبراير 2011 بإصدار قرار بتشكيل لجنة مستقلة لتقصي الحقائق حول الأحداث التي شهدتها البلاد وترك لأعضائها مطلق الحرية للعمل ثم أنشأ لجنة وطنية لمتابعة تنفيذ توصيات هذه اللجنة الدولية. ولعل إلقاء نظرة على توصيات اللجنة القرارات التي أعقبتها تؤكد مدى حرص الملك حمد على إرساء العدالة في بلاده وعدم إفلات أي مخطيء من العقاب مهما كان منصبه . وكانت لجنة تقصي الحقائق حول الاضطرابات التي اندلعت منذ 14 فبراير الماضي في المملكة أصدرت تقريرا حول نتائج أعمالها في 23 نوفمبر الماضي أكدت فيه أن السلطات الأمنية استعملت القوة المفرطة وغير المبررة ضد المحتجين , بهدف "بث الرعب". وقال رئيس اللجنة شريف بسيوني وهو خبير مصري في القانون الجنائي الدولي في كلمة ألقاها بحضور الملك حمد بن عيسى آل خليفة إن اعترافات المحتجزين انتزعت بالقوة وإن معتقلين تعرضوا للتعذيب , مشيرا إلى تسجيل أنماط سلوكية معينة تقوم فيها بعض الجهات الحكومية تجاه فئات معينة من الموقوفين". وأضاف أن التعذيب مورس على المعتقلين بشكل متعمد بهدف انتزاع الاعترافات أو للعقاب والانتقام من أشخاص آخرين , إلا أنه أوضح أن هذه الممارسات تمت "خلافا لأوامر قمة الوزارة" و"بالرغم من وجود تعليمات سارية لم تنفذ". وتابع بسيوني في الجلسة الرسمية لإعلان تقرير اللجنة ، أن 35 شخصا قتلوا في الاضطرابات بينهم خمسة من أفراد الأمن ، مشيرا إلى أن اللجنة أوصت بإعادة النظر في أحكام أصدرتها السلطات بحق من اتهمتهم بالمسئولية عن الاضطرابات وتخفيف أحكام الإعدام الصادرة بحق متهمين وإلغاء الأحكام في قضايا الرأي وحرية التعبير. كما أوصت بإنشاء لجنة وطنية مستقلة ومحايدة لمتابعة وتنفيذ ما جاء في التقرير السابق , وأوصت كذلك باتخاذ إجراءات تشريعية تحول دون ممارسات التحريض والعنف الطائفي. ومن جهة ثانية , أكدت اللجنة أنه لا توجد أدلة على دور واضح لإيران في الاحتجاجات , كما ذكر التقرير أنه لا أدلة على أي تجاوزات لحقوق الإنسان ارتكبتها قوات درع الجزيرة التي أرسلتها دول مجلس التعاون الخليجي تزامنا مع قمع الاحتجاجات. وعلى الفور ، قدم ملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة اعتذارا عن المخالفات التي أثبتها التقرير، وتعهد بفتح "صفحة جديدة" والقيام بإصلاحات شاملة وجذرية لأجهزة الأمن البحرينية، وأن يتم إصلاح المؤسسات البحرينية لتواكب المعايير الدولية لحقوق الإنسان، وتقديم المسئولين عن مخالفات إلى العدالة. ولم تكد تمر ساعات على التصريحات السابقة , إلا وقام الملك حمد بالفعل بتشكيل هيئة وطنية لدراسة تطبيق توصيات تقرير اللجنة المستقلة لتقصي الحقائق ، كما أقال مدير وكالة الأمن الوطني ، واستحدث هيئة لحقوق الإنسان ، وقرر الاستعانة بضابط شرطة بريطاني سابق وآخر أمريكي للإشراف على إصلاح جهاز الشرطة . وأفادت وكالة الأنباء البحرينية الرسمية حينها بأن الهيئة الوطنية ستعني بدراسة توصيات تقرير اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق وستقوم بوضع مقترحاتها ، بما في ذلك التوصية بالتعديلات الضرورية في القوانين والإجراءات وكيفية تطبيق هذه التوصيات. وبحسب الوكالة , فإن اللجنة ستنجز عملها قبل نهاية فبراير 2012 ، وذلك في إطار من الشفافية ، وستنشر قائمة بمجموع ما أنجزته من أعمال خلال تلك الفترة. وأمام ما سبق , يرى كثيرون أن الملك حمد أقدم على خطوات إيجابية كثيرة لإثبات حرصه على الاستقرار في المملكة وعدم التمييز بين أبناء شعبه ، وكان آخرها الاستعانة بخبراء أجانب في مجال الأمن ، ولذا فإن الكرة الآن في ملعب المعارضة ، لأن استمرار مقاطعتها لأعمال الهيئة الوطنية قد يعيق الإصلاحات التي اقترحها تقرير لجنة تقصي الحقائق واستجاب لها الملك على الفور. وهناك حقيقة هامة أخرى ، وهي أن بناء الثقة مهم جدا، ويستغرق وقتا، ويتطلب وضع استراتيجيات معينة وأسس علمية مستلهمة من التجارب الدولية ، ولذا فإنه لا بديل عن الإسراع بحوار جدي بين الحكومة والمعارضة ، خاصة وأن ولي عهد البحرين الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة أكد أيضا أنه لا عودة إلى الوراء فيما يتعلق بإدارة الشأن العام ، قائلا في تصريحات صحفية اواخر نوفمبر الماضي :" العالم العربي برمته في مرحلة انتقال، إننا نعيش في وقت مختلف, ويجب ألا نكون في الجانب الخطأ من التاريخ ، هناك حاجة ملحة للإصلاح" . ورغم أن البحرين شهدت توترات طائفية بلغت ذروتها في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي ، إلا أنه منذ تولي الملك حمد بن عيسى آل خليفة مقاليد الحكم عام 1999 وقيامه بإطلاق مشروعه الإصلاحي الذي أفرج بموجبه عن جميع الموقوفين وسمح للمعارضين في الخارج بالعودة إلى البلاد تنفس الجميع الصعداء وتراجعت بالفعل الاضطرابات الطائفية في المملكة . وخلال الأشهر الماضية كانت الأوضاع في طريقها للتصعيد أكثر لولا تدخل الملك حمد وكعادته في الوقت المناسب لإنقاذ الوضع عبر تشكيل لجنة تقصي الحقائق والتي جاءت نتائجها حيادية تماما على عكس مخاوف المعارضة . بل إن تصريحات الملك حمد حول تقرير اللجنة أكدت مجددا أنه حكم عدل بين مواطني بلاده وأنه لا يفرق بين سني وشيعي ، بل إنه طمأن أهالي ضحايا الاضطرابات بأنه لن يفلت أحد من العقاب أيا كان منصبه . وكان الملك حمد قال في كلمة ألقاها بمناسبة الكشف عن تقرير لجنة تقصي الحقائق :" إن هذا التقرير يمنح بلادنا فرصة تاريخية للتعامل مع أهم المسائل وأشدها إلحاحا". وأضاف " المسئولون الذين لم يقوموا بواجبهم سيكونون عرضة للمحاسبة والاستبدال" ، مشددا على أنه يجب إصلاح القوانين لكي تتماشى مع المعايير الدولية.