في خطوة أضافها المراقبون إلى سجل غرائبه، طرح العقيد القذافي الاثنين 231 2006م، أمام القمة الأفريقية المنعقدة في الخرطوم وثيقة مثيرة للجدل، طالب فيها القادة الأفارقة بالنأي ببلادهم عن منطقة الشرق الأوسط، بإعتبارها منطقة : "مليئة بالنزاعات الخطيرة، والأسلحة النووية، والعمليات الإرهابية". وقالت وثيقة الرئيس الليبي : إن ربط الشرق الأوسط بأفريقيا، يعني أن تصبح أفريقيا متورطة في مشاكل الشرق الأوسط المتفجرة والتي يسودها التمزق. وأضافت أن الربط في حال حدوثه سيحول القارة إلى فوضى عارمة، وأن الحفاظ على التجانس الإفريقي السائد الآن يحتم على القادة الأفارقة النأي ببلادهم عن الشرق الأوسط. وقالت مصادر صحفية : إن الوثيقة التي (كان) من المفترض أن يناقشها القادة الأفارقة حسب الطلب الليبي، تسببت في إحراج الدولة المضيفة (السودان) وكذلك الدول العربية الأفريقية الأخرى، والجامعة العربية. ومن ثم سعت أطراف عدة إلى إثناء القذافي عن طرح وثيقته على القمة. والحقيقة التي يعلمها المتابعون لأخبار العقيد القذافي هو أن الرئيس الليبي تنسب إليه العديد من المفارقات والغرائب في عالم السياسة، فالرجل الذي يرى في المنطقة العربية الآن مصدر توتر وإضطراب، ينصح الآخرين بالنأي عنها، كان واحداً من أعلى الأصوات التي نادت في السابق بالوحدة العربية. وقد خاض قائد ثورة الفاتح في الماضي صراعات مريرة مع الغرب ممثلاً في الولاياتالمتحدة وحلفائها الأوروبيين، إلا أنه وفي الوقت نفسه الذي دفع بلاده إلى التخلي الطوعي عن برنامجها النووي، والكشف عن كل تفاصيله، وتقديمها على طبق من فضة إلى المسئولين في واشنطن، حتى قال الأمريكيون أنفسهم لقد أعطانا القذافي أكثر مما كنا نحلم أن نأخذه من ليبيا. وبقدر ما تستوجب خطوة قائد ثورة الفاتح العودة بالذاكرة إلى الوراء للتأمل في سجل غرائبه السياسية منذ توليه الحكم في الجماهيرية العربية الليبية، بقدر ما تستوجب من باب أولى الوقوف أمامها للتأمل في خلفياتها وفحواها. فقد أبانت وثيقة العقيد القذافي بكل وضوح عن نظرة (الزعيم) الليبي السلبية على أحسن تقدير إلى المنطقة العربية وما يجري بها من أحداث وتطورات، وهو من هو، واحد من أعلى الأصوات الداعية في السابق إلى لم الشمل العربي من المحيط إلى الخليج. وبقدر ما تستوجب وثيقة القذافي من إدانة واستنكار على جميع المستويات، إلا أنها تستوجب كذلك البحث في أسباب ودوافع الرئيس الليبي لتقديمها أمام القمة الأفريقية. فالقذافي لا يكتفي بإعلان ولاءاته الأفريقية حتى يجهر برؤيته للعرب الذين صاروا عبئا ليس عليه وحده بل على كل من جاورهم. فقد بدأ القذافي يتوجه إلى إفريقيا منذ الحصار الذي كان مفروضاً على بلاده من قبل الغرب، وهو الحصار الذي تأكد معه للنظام الليبي آنذاك العجز العربي عن مد يد العون له في محنته، في حين لم يتوان الأفارقة عن مد أيديهم بقدر المستطاع نحو ليبيا، ولعل الأفارقة كانوا في مقدمة الدول والشعوب التي اجتازت الحدود نحو طرابلس رغم الحصار المفروض عليها آنذاك. يستطيع كل متابع أن يتأكد من مدى حلحلة ما كان يسمى في السابق ب (التضامن العربي) هذا المسمى الذي لم يعرف له العرب أي وجود حقيقي تجاه الأخطار التي كانت تحدق بقضاياهم المصيرية، خاصة في فلسطين والعراق والسودان وليبيا وأخيراً سوريا ولبنان. كما يستطيع كل مواطن عربي أن يتحقق من خلال "وثيقة القذافي" على مدى التشرذم العربي في ظل أنظمة الحكم متعددة الولاءات والتوجهات، متناقضة المصالح والأغراض، ومدى التخبط التي تعانيه هذه الأنظمة في ظل سياسة الأهواء التي تتبعها. ولم يكن عميد النظام الليبي هو أول من يرى مصلحته في الخروج من (البيت العربي)، بل هو نفس الحال الذي ينطبق تقريباً على كل الحكام العرب، فكما رأى القذافي مصلحته في التوجه قبل الجنوب ناحية أفريقيا، رأى آخرون مصالحهم في التوجه ناحية أوروبا، وآخرون ناحية أمريكا، وآخرون ناحية آسيا، الثابت الوحيد لديهم هو أن هذه المصالح لا يمكن أن تأتي من قبل العرب والمسلمين. ولعل في هذه الرؤية القاصرة يكمن السر الذي تمكنت به القوى والتكتلات الخارجية من استقطاب العرب نحو مصالحها، وإن جاءت هذه المصالح متعارضة بكل المعايير مع مصالح العرب أنفسهم. ولم يكن القذافي أيضاً هو أول زعيم عربي يقدم نصائح مجانية لمن لا حاجة له فيها، على حساب الوطن العربي وأمنه واستقراره، بل سبقه الكثيرون من عمداء الأنظمة العربية، ولم تكن دوائر الإستخبارات الغربية تتوان في فضح نصائح الزعماء أمام العالم بدلاً من تقديم الشكر على نصائحهم. وكانت الصحف الأمريكية ووسائل الإعلام الأوروبية عبر التسريبات الإستخباراتية صاحبة الفضل الأول في الكشف عن مقدار وحجم النصائح العربية التي قدمت للأمريكيين مجاناً خلال غزوهم التراب العراقي على أيدى حكام العرب. لكن هل بالفعل المنطقة العربية مصدر قلاقل للآخرين؟ لا يستطيع عربي منصف أن ينكر حقيقية المشاكل والأزمات والتحديات التي تعصف بالعالم العربي والمنطقة، وهي أزمات لا شك ثقيلة العيار على أمن المنطقة واستقرارها، والعرب لا يكادون يخرجون من عاصفة حتى يدخلون الأخرى، لأنهم كما يقال لا يتعلمون من أخطائهم. لكن هل الشعوب هي المتسببة فيما يواجهه العالم العربي من أزمات؟! .. إن المتتبع لسلسلة الكوارث التي تعرض لها العالم العربي حسب ترتيبها الزمني والتاريخي، يتبين له بما لا يدع مجالاً للشك أن الأنظمة التي تحكم العالم العربي من المحيط إلى الخليج وأعمدة هذه الأنظمة، هي المتسبب الأول في كل أزمة عربية، بالإضافة إلى الدسائس التي تحاك من قبل المتربصين بالخارج، وإن كان لا ينبغي أن يعول على هؤلاء لأن من حق الآخرين أن يأمنوا مصالحهم، وليس لنا أن نطالبهم بالشفقة على أوضاعنا. فالأزمة العراقية أفتعلتها الأنظمة، والأزمة بين سوريا ولبنان هي أيضاً أزمة أخطاء أنتجتها تصرفات الأنظمة، والمشاكل التي مرت بها ليبيا نفسها هي ما جنته أيدي نظام القذافي سواء مع الغرب أو مع الشرق، بل ما جنته أيدي القذافي نفسه وكانت آخرها خلافاته مع المملكة السعودية.. فإن كان حقاً ما انتهينا إليه فقد جانب زعيم ثورة الفاتح الصواب حينما حذر الأفارقة من مشاكل المنطقة التي هو أحد مفتعليها والمتسببين فيها مع نظرائه من أعمدة البيت العربي. صحفي مصري القاهرة[email protected]