من الواضح أن الأحداث تتسارع في الخليج العربي بصورة غير مسبوقة ، وهو تسارع فرض على قيادات الخليج إعادة نظر جذرية في عدد من الاستراتيجيات التي حكمت توجهات الدول الخليجية خلال السنوات الثلاث أو الأربع الماضية ، وهذه التحولات الجديدة ستكون مؤثرة بصورة مباشرة وربما عنيفة على الأوضاع في مصر ، نظرا لارتباط الحالة السياسية المصرية بالخليج ، سواء من حيث الدعم الأساس للرئيس السيسي ونظامه أو من حيث الدور الذي كان يمثل "رغبة مشتركة" بين مصر والخليج تجاه الربيع العربي وفي القلب منه الحركات الإسلامية . استقبال العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز للسيد خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس وبصحبته عدد من قادة الحركة والاحتفاء بهم كما هو واضح ، سواء في الصحافة السعودية أو التليفزيون الرسمي السعودي لم يكن هو الإشارة الأولى ولا الوحيدة بالطبع ، ففي نفس الأسبوع كان القيادي الإخواني اليمني الكبير الشيخ عبد المجيد الزنداني يصل إلى السعودية في احتفال رسمي وشعبي لافت أيضا ، كما استقبله عدد من الرموز المحسوبة على الإخوان في السعودية ، وأحدهم صدرت ضده أحكام بالسجن في مصر على خلفية قضايا غيابية ، وقبلهم كان عدد من القيادات الإخوانية اليمنية قد حضرت اجتماعات رسمية مع القيادات السعودية المختلفة ، وأيضا استقبل رسميا الشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة الإسلامية التونسية المقرب من الإخوان ، ويجري الإعداد على قدم وساق للمؤتمر الحاشد الذي دعت إليه السعودية لقوى الثورة السورية المعارضة لنظام بشار الأسد للتأسيس لمرحلة ما بعد الأسد وأغلبها قوى إسلامية ، وهو توجه يناقض رؤية مصر التي ترى الأسد جزءا من الحل المرحلي وترى أن من الضروري الحفاظ على نظامه وأجهزته الأمنية والعسكرية لمنع وصول الإسلاميين إلى الحكم في دمشق . التحركات السعودية الجديدة يصعب تصور أنها مواقف منفردة وغير مترابطة ، وإنما من الواضح أنها تعبر عن استراتيجية سعودية جديدة للتعامل مع مشكلات المنطقة وتحدياتها ، برزت مع تولي الملك سلمان قيادة المملكة خلفا للملك عبد الله ، ومن المرجح أن تتسارع تلك الخطوات لتشمل أبعادا أخرى في ليبيا وتونس والعراق ، على ضوء التحدي الجديد الذي فرضه الاتفاق النووي بين إيران والمجموعة الغربية ، والذي يتيح لإيران دعما ماليا وفيرا ودعما سياسيا ومعنويا سيطلق طاقاتها التخريبية المهددة للسعودية والخليج بصورة أكثر خطورة بعد فك الحصار الدولي عنها ، ووفق المنظور السعودي فإن المواجهة مع إيران لن ترقى لتكون حربا تقليدية شاملة بين البلدين ، وإنما هي الصراع العنيف على مناطق النفوذ والتمدد التي يحتمل منها الخطر ، وهذا يعني بداهة أن يكون السباق على احتواء الحركات السياسية الإسلامية النشطة والمؤثرة في المنطقة ، سياسيا وعسكريا ، فإيران تعتمد في تمددها وتغلغلها وسيطرتها على الجماعات الشيعية في لبنان واليمن والعراقوسورياوالبحرين ونفوذها في فلسطين وتحاول اختراق خاصرة السعودية الشرقية ، والسعودية لن تستطيع مواجهة إيران إلا في نفس المضمار ، عن طريق احتواء الحركات السياسية السنية وقطع الطريق على إيران من اختراقها أو التأثير عليها ، وبطبيعة الحال ، سيكون في صدارة المشهد جماعة الإخوان بتجلياتها التنظيمية والحركية العديدة في مختلف دول المنطقة ، في الخليج أو فلسطين أو سوريا أو العراق أو اليمن أو غير ذلك ، وهذا ما يتناقض كليا مع الرؤية المصرية للأحداث ، ويجعل من الصدام بين القرار المصري والقرار السعودي حتميا في المرحلة القريبة المقبلة ، رغم جهود الطرفين من أجل تأجيل ذلك أو التخفيف من حساسيته . الخليج في مجمله يميل إلى الرؤية السعودية ، سواء بالاقتناع أو بالتأثر باعتبار الرياض هي "الأخ الأكبر" ، والرؤية السعودية متطابقة مع رؤية قطر ، والكويت بدرجة أقل ، كما أن البحرين ملتزمة بالموقف السعودي قولا واحدا وعمان نأت بنفسها مبكرا عن الاصطفاف مع الموقف المعادي للربيع العربي ، وتبقى الإمارات في الموقف المحير والقلق ، نظرا لتورطها في أكثر من ملف بصورة سلبية في مصر وليبيا وتونس تحديدا ، كما أن عداءها للإخوان والحركات الإسلامية من الواضح أنه متجذر ومهجوس بمخاوف كثيرة على استقرار الدولة ، وقد بدأت عمليات "تحرش" ديني وإعلامي من "أبو ظبي" بالسعودية ، من خلال النقد المباشر للتوجهات الجديدة ، واليوم أطلق الفريق ضاحي خلفان عددا من الانتقادات العلنية الحادة للسياسة السعودية الجديدة التي تحتضن الحركات الإسلامية ، وفي نفس الوقت شن الشيخ على الجفري المقيم في أبو ظبي ويدير مركز دراسات أسسته المخابرات الإماراتية ، شن هجوما عنيفا على المذهب الديني للمملكة ، وتراث ابن تيمية وابن عبد الوهاب معتبرا أنهما أساس الإرهاب في المنطقة ، وهي جرأة خطيرة من العبث تصور حدوثها فجأة بدون ضوء أخضر من جهات نافذة . في كل الأحوال ، سيكون من الصعب على الإمارات أن تتحدى القرار السعودي ، أو أن تعمل وفق استراتيجية مختلفة تهدد المصالح الكبرى للسعودية باعتبارها عمود الخيمة لدول الخليج العربي ، وعلى جانب آخر ، فالمتابع للإعلام السعودي ، باستثناء ذلك القطاع المغترب والمحسوب على الأجهزة الإماراتية ، سيلاحظ أن المزاج العام في السعودية بين النخبة والإعلاميين أصبح سلبيا تجاه مصر ونظام الرئيس عبد الفتاح السيسي ، بل ألمح بعضهم إلى أن بعض الوزراء الجدد الذين تم تعيينهم الأسبوع الماضي هم من المعروفين بمواقفهم السلبية تجاه النظام المصري ، وممن يعتبرون أن ما حدث في مصر هو "انقلاب" ، وهو أمر كان من المستحيل حدوثه قبل التحولات الأخيرة في المملكة . التطورات المتسارعة ستدفع بالمواقف إلى التبلور بشكل أسرع ، وأعتقد أن الأسابيع القادمة سوف تفرز تحالفات جديدة مختلفة كليا في المنطقة ، وستكشف سريعا أيضا إلى أي مدى يمكن أن تتأثر الأوضاع الداخلية في مصر بها .