"لقد رحل الشيخ الشعراوى فى وقت كانت الأمة أحوج ما تكون إليه؛ من أجل إنقاذ الأزهر مما يراد به من إضعاف التعليم الديني والجور عليه، وكان يقف على رأس جبهة معارضة قوية للحيلولة دون ذلك. وقد وعده المسئولون فى مصر أن يحققوا له طلبه فى تطوير القسم العلمي ما شاءوا أن يطوروه، والعناية بالقسم الأدبي الذى يخرج علماء أصول الدين، وهم خلاصة الأزهر الذى يعد لتخريج الأجيال المرجوة للأمة، والتى تتفقه بالدين، وتنذر قومها إذا رجعوا إليها.. وإننا لنرجو أن يفي المسئولون للشيخ بعد وفاته بما وعدوه فى حياته" كلمات نعي بها العلامة القرضاوى الشيخ الجليل محمد متولي الشعراوى الذي توفى فى مثل هذا اليوم 17 يونيو 1998م عن عمر يناهز 87 عامًا. جمهورية زفتى مولد إمام الدعاة على بعد بضع مئات من الأمتار من جمهورية زفتى، وتحت الكوبري الإنجليزي الفاصل بين منية غمر ومنية زفتى, وسط خضرة وماء عذب سلسبيل، قامت بضعة بيوت ريفية متواضعة لتشكل قرية اسمها دقادوس، شهدت مولد الشيخ العالم المفسر اللغوي الشاعر العلامة محمد متولي الشعراوي أوائل هذا القرن العشرين. وكانت ميت غمر - التي نشأ الشعراوي في حواشيها - تضم حارة لليهود ذات قوة اقتصادية، وتضم جالية نصرانية لا بأس بها، لوجود بعض الكنائس القديمة بالمنطقة، فضلًا عن الازدهار التجاري والتعليمي في المدينة ذاتها. الشعب المصري يرزح تحت أعباء ثقال من التخلف والجهل، والإنجليز يحتلون كبرى بلاد الشرق وأعرقها، والمستشرقون: جب، وماسينيون، وإسرائيل ولفنسون، وكارل نللينو - وغيرهم - يستوطنونها ليزرعوا مناهج فكرية ستؤثر تأثيرات شديدة في الدراسات الدينية والاجتماعية، والسياسات التعليمية والإعلامية الثورجى الأزهري خرج الشعراوي فلاحًا وابن فلاح، وشاعرًا أزهريًّا "ثورجيًّا" وفدائيًّا يملأ الدنيا ضجيجًا وحركة، لا يرضى أن يكون في الساقة، بل يتقدم المظاهرات النارية.. يعيش من خلالها تفاعلات شكلت صورة مصر حتى تسعينيات القرن العشرين تقريبًا، ويستمر نهر حياته في الاندفاع، ليتمخض نشاطه وجهده أوائل السبعينيات - بعد مَوَران وفاعلية داما قرابة ستة عقود - لتبدأ إشراقاته العلنية في تفسير القرآن الكريم، من خلال برنامج نور على نور، في التليفزيون المصري، الذي انتشر من خلال حلقاته اسم الشعراوي انتشار النور البازغ، واستمر ارتفاعه بعد ذلك من خلال حلقاته في التفسير التي كان أثرها شديدًا؛ لدرجة أن إسرائيل طالبت بوقفها في فترة من الفترات، بسبب كلامه عن الآيات التي تتناول اليهود عقيدة وشريعة ومسلكًا. وليفاجأ الناس بمنهج جديد في التعامل مع كتاب الله - كأنه ما سُبق إليه - فقد نجح هذا الفلاح النحيل الطويل في تقريب الجمل المنطقية العويصة، والمسائل النحوية الدقيقة، والمعاني الإشارية المحلقة، والنزول بها إلى العامة بلغة يفهمها كل أحد، حتى باتت أحاديثه قريبة جدًّا من الناس على المقاهي، وفي البيوت، والمساجد التي ينتقل بينها من أقصى مصر لأقصاها، وعَهْدنا بعلم التفسير ومعلميه أنه دقيق، لا يقدَّم إلا في قوالب منهجية صارمة، ولغة مترفعة صعبة - مع أن الأصل تيسير القرآن للتلاوة والفهم - فقلب الشعراوي هذا كله ليوجه خطابه ل99% من الشعب المصري الذين لا يعرفون ما الرازي ولا الطبري ولا القاسمي، وليقرّب إليهم القرآن في صورة جذابة سهلة قريبة من العقول والقلوب، لا تفرق بين المنقول والمعقول، والإشاري والإعجازي، واللغوي والفقهي، والعصري والأثري. المفسر الأول للقرآن أوائل السبعينيات - 1974م - لم يُعرف الشيخ إلا بأنه المفسر الأول للقرآن.. يعيش معه، وينفعل به وله.. وبدأ طلاب العلم، والتجار، وأصحاب التسجيلات يتلقفون أحاديث الشيخ، وينسخونها بكل الوسائل، والحلقة رقم 1010 من تفسيره التليفزيوني، وإذا كان متوسط الحلقة 40 دقيقة، فإن ذلك يعني أنه سجل أربعين ألف دقيقة، أي 667 ساعة، أي ما يساوي 28 يومًا متصلة من التفسير - كل جزء في يوم كامل تقريبًا - وقد عرض عليه في بدايات تفسيره مليون دولار من أحد التليفزيونات فرفض إلا أن يكون عمله مجانيًّا. كان الشعراوي من الذين يغيرون على الأزهر، وله رغبة زائدة في أن يعيد له عافيته التي (هدّها) العسكر، وسدنة الاشتراكية ثم سدنة التغرب,وكان لغويًّا كبيرة، اختير منذ عام 1987م عضوًا ب"مجمع الخالدين" أو مجمع اللغة العربية وجاء انضمامه بعد حصوله على أغلبية الأصوات (40عضوًا). وكان مما قاله بعد اختياره أمام أعضاء المجمع: "ما أسعدني بهذا اللقاء، الذي فرحت به فرحًا على حلقات, فرحت به ترشيحًا لي، وفرحت به ترجيحًا لي، وفرحت به استقبالاً لي، لأنه تكريم نشأ عن إلحاق لا عن لحوق، والإلحاق استدعاء، أدعو الله بدعاء نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أستعيذك من كل عمل أردت به وجهك مخالطًا فيه غيرك, فحين رشحت من هذا المجمع آمنت بعد ذلك أننا في خير دائم، وأننا لن نخلو من الخير ما دام فينا كتاب الله، سألني البعض: هل قبلت الانضمام إلى مجمع الخالدين، وهل كتب الخلود لأحد؟ وكان ردي: إن الخلود نسبي، وهذا المجمع مكلف بالعربية، واللغة العربية للقرآن، فالمجمع للقرآن، وسيخلد المجمع بخلود القرآن. بركات الشعراوي فى يوم من الأيام كان هناك مؤتمر قمة إسلامي برئاسة أحد المشايخ وعلماء الدين وتم دعوة الشيخ الشعراوي لحضور المؤتمر وكانت مدته أسبوعا تقريبًا, فوافق الشيخ الشعراوي وأعد نفسه وتهيأ لحضور المؤتمر وإذ بأولى جلسات المؤتمر ورأي الشيخ الشعراوي أن رئيس المؤتمر رأي فى نفسه ما لا قد يكون موصوفًا به فعلا فقد رآه يتمتع بنوع من الغرور بالعلم وزيادة المعرفة فصعد الإمام الشعراوى إلى المنصة وقال سوف أطرح عليكم سؤالاً وأريد منكم إجابته؟ السؤال: أين ذهب ماء غسل الرسول "ص" بمعنى الماء الذي غسل به الرسول صلى الله عليه وسلم عند وفاته ولكن حين طرح السؤال فلم يجب أحد الكل صامت، الكل لا يتحدث رئيس المؤتمر تنتابه دهشة وذهول كيف لا أعرف إجابة هذا السؤال ولكن خرج رئيس المؤتمر من هذا الموقف برد للشيخ الشعراوي وقال له اعط لنا فرصة لنجاوبك فى جلسة الغد إن شاء الله, وذهب رئيس المؤتمر إلى بيته لم يفعل شيئًا سوى أن دخل على مكتبته الخاصة يبحث ويقرأ ويفتش عن إجابة ذلك السؤال الذي صمت أمامه الجميع استغرق رئيس المؤتمر وقتًا طويلاً فى البحث حتى تم إنهاكه من التعب والمجهود ولم يلق شيئًا حتى استغرقه النوم على كتاب كان يقرأه وبينما هو نائم وإذ برسول الله (ص) يأتيه فى رؤيا. وكان بجانبه رجل يحمل قنديلاً (القنديل يعنى شيء مضيء للإنارة وخلافه) فذهب رئيس المؤتمر مسرعًا إلى رسول الله. وقال له يا رسول الله أين ذهب ماء غسلك؟ فأشار الرسول (ص) إلى حامل القنديل بجانبه. فرد حامل القنديل وقال: ماء غسل الرسول تبخر وصعد إلى السماء وسقط على هيئة أمطار وكل قطرة بنى مكانها مسجد. بمعنى أن كل قطرة من ماء غسل الرسول بنى بها مسجد باعتبار ما كان واعتبار ما سوف يكون، واستيقظ الرجل من نومه فى غاية السعادة لأنه عرف الإجابة التى سوف تبيض وجهه فى مؤتمر الغد, وفى اليوم التالى ذهب إلى المؤتمر. وانتظر يسأل الشيخ الشعراوي عن إجابة السؤال ولكنه لم يسأل, وفى نهاية المؤتمر لليوم الثاني, قام رئيس المؤتمر وقال للإمام لقد سألت سؤالا بالأمس, فهل تود أن تعرف الإجابة. فرد الشعراوي: وهل عرفت إجابته قال: نعم قال الشعراوي: فأين ذهب ماء غسل الرسول إذن؟ قال رئيس المؤتمر: ماء غسل الرسول تبخر وصعد إلى السماء ونزل على هيئة أمطار وكل قطرة بُني مكانها مسجد قال له الشيخ الشعراوى: وكيف عرفت الإجابة قال رئيس المؤتمر: جاءنى رسول الله (ص) فى رؤية قال الشعراوي: بل أجابك حامل القنديل فذهل الرجل واندهش ورد قائلا للإمام: كيف عرفت ذلك؟ فرد الشعراوي ردًا لم يكن متوقعًا أدهش وأذهل الجميع قائلاً: فأنا حامل القنديل. وقد رواها رئيس المؤتمر بنفسه, رحم الله شيخنا الجليل, فالناس موتى وأهل العلم أحياء.