من الضروري أن نتوقف لحظات عن جلد الذات وأن نستعيد جزءا ولو يسيرا من الثقة بالنفس، فمصر كانت حاضرة أمس وفي كل الفضائيات الشهيرة عالميا، أثناء مبادلة الأسير الإسرائيلي جلعاد شاليط بالأسرى الفلسطينيين. حماس حيت مصر واعتبرت نجاح الصفقة استعادة لدورها ومكانتها. ونتنياهو تحدث أيضا عن قدرة مصر على انجاح الصفقة. حتى شاليط نفسه تكلم في أول حديث له بعد إطلاقه عن هذا الجانب. قد لا يعجب البعض ذلك فنحن موغلين في جلد أنفسنا والتقليل منها. ومن عجائبنا إذا ضحكنا أن نقول "اللهم اجعله خيرا"! مصر طوال 1940 يوما قضاها شاليط أسيرا لدى حماس وهي تقدم نفسها كوسيط مع الوسيط الألماني. لكنها فشلت في كل المراحل طوال تلك المدة، فيما نجحت لمفردها وفي عدة شهور فقط بعد غياب نظام مبارك في ما اعتبرته حماس نصرا كبيرا وما اعتبره الاسرائيليون حزنا وانتكاسة. 1027 أسيرا فلسطينيا مقابل شاليط. هذا ما كانت ترفضه إسرائيل طوال السنوات الماضية، وهو ما اطلق عاصفة غضب بين الإسرائيليين وخصوصا المتطرفين واعتبروه هزيمة. لكن لماذا وافقت هذه المرة وضيعت هباء 5 سنوات من عمر شاليط؟! مصر سابقا كانت تتوسط كطرف معاد لحماس. وفي معظم الأحيان قدمت نفسها على ذلك النحو. عمر سليمان اعتبرها خصما إيديولجيا وتاريخيا ومبارك كان مصمما على حصار غزة وتجويعها. في أجواء كهذه لا يثق فيك أحد ولا يتقبل منك شيئا وتفقد القدرات التفاوضية. ولم يكن موقف مصر أفضل عند إسرائيل، فقمة ما تميزت به عندها أن "مبارك كنز استراتيجي". فكيف نتوقع منها تنازلات إذا كانت تعتبر رئيس الدولة الوسيطة مجرد كنز؟!.. في أفضل الحالات ستتصرف معها على أنه "سمسار" خايب! كان من الظلم لدور مصر وحجمها أن يسند إليها دور "السمسار". مبارك قام بتقزيمها إلى أقصى الحد السفلي فصارت أسيرة لنزعاته الشخصية ومخاوفه الأيديولجية وعدواته النفسية ومطامعه التوريثية. مصر تخلصت أولا من قيود مبارك ونظامه وعندما صارت حرة، عادت لها أوراق المناورة و جلست إلى طاولة لعبة الدومينو. لو عندنا إعلام قوي محايد وغير مباركي معبر عن "مصر الجديدة" لتعامل بكبرياء وعزة نفس مع حدثين مهمين متعاقبين. الاعتذار عن قتل الجنود المصريين في أغسطس الماضي.. ثم إطلاق سراح شاليط مقابل عدد كبير من الأسرى الفلسطينيين. وقبلهما نجحت مصر في إطلاق المصالحة الفلسطينية. وإذا ذكرنا الإعلام فلابد أن نعطي لكل ذي حق حقه. فمهنيا نجح التلفزيون المصري أمس في الحصول على سبق أول حديث مع شاليط. وحتى لو كانت القاهرة الرسمية قد ساهمت في ذلك، فلا شيء يقلل منه، فمعظم القنوات الكبيرة والمؤثرة تنطلق من قواعد رسمية. ولأنه سبق مهني يحسب للتلفزيون المصري فقد انهالت عليه أحجار الحسد المهني من الإعلام الإسرائيلي. فمذيع الأخبار الرئيسي في القناة العاشرة الإسرائيلية يعكوف ايلون وصف المقابلة ب"الغريبة جداً"، وقالت مراسلته إنها مقابلة "همجية". مذيعة في القناة الثانية الإسرائيلية قالت"إن شاليط كان في وضعية غير مريحة، وإنه لأمر قاس جداً إجلاس الجندي بهذه الطريقة وتوجيه الأسئلة له بهذا الشكل، فيما عقب مراسلها بأنه "أمر غير حضاري" وفيه "مسّ بالجندي وهجوم كبير عليه". واتفقت وسائل الإعلام الإسرائيلية على أن هذه المقابلة فرضت على جلعاد شاليط رغماً عنه، وأن سلوك المصريين لم يكن سوياً ولا موفقاً، وأن شاليط بدا غير مرتاح في المقابلة ومهموماً ومحرجاً من الأسئلة التي تم توجيهها إليه من قبل مذيعة التلفزيون المصري. وهاجم الشارع الإسرائيلي المذيعة التي أجرت الحوار مع شاليط بسيل من الشتائم ، وتمنى أحد المعلقين الذين استضافتهم محطات التلفزة الإسرائيلية الموت لها، وقال آخر إنه يرغب في ضربها وذهب آخرون لوصفها بأوصاف قاسية. وصب معلق ثان جام غضبه على العرب عموما قائلا: "أعتقد أن كل العرب لا يتحلون بحسّ إنساني، وهذه المقابلة دليل على ذلك وهم لا يقلون فظاعة عن النازيين". وأشار معلق آخر إلى أن نوعية الأسئلة كانت صعبة وحاولت المحاورة إرغام شاليط على الرد، وبلغة عصبية قال محللون إسرائيليون إنه كان من المتوقع أن تبث مصر المقابلة، فهذا يعطيها دفعة إلى الأمام ويؤكد دورها في الصفقة وأنها دولة قوية يمكنها أن تؤثر في القضايا المتعلقة بالمنطقة. وتعلق وكالات الأنباء على حمى الغضب هذه بوصفها "غيرة مهنية" من الإعلام الإسرائيلي لأن اللقاء الأول لشاليط لم يكن في أي منها. عندما يتعافى القلب.. تضخ الدماء في كل أجزاء الجسد ويستثار الحاسدون.. لقد كانت هذه فرصة لنعرف أنفسنا وقدراتنا جيدا.. ليست فرصة للغرور وإنما لنعيد بناء مصر على أسس سليمة تناسب حجمها وتأثيرها ولا تعيدها إلى كراسي السماسرة وسيارات "اللي يحب النبي يزق"!! [email protected]