روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله قال:قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق). كم يحمل هذا الحديث من أمل لعباد الله، فإنك مهما تصاغرت قوتك وتضاءلت قدرتك، فإنك مأمور بالعمل، مطالب بإحسانه وتجويده، والله لا يضيع أجر المحسنين. ومن رحمة ربنا جل وعلا وعدله وحكمته، أنه لم يكلف عباده بالنتائج، بل كلفهم ببذل الجهد واستفراغ الوسع، تجد ذلك في قوله تبارك وتعالى: (ليبلوكم فيما آتاكم)، وقوله: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)، وكذلك قوله:(لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها)، وما آتاك ووسعك قطعا لا يشمل النتيجة، فلست مبتلى مختبرًا إلا فيما آتاك من إمكانات ووهبك من قدرات، أما ما سيخرج إلى النور وما سيُخلق في هذا الكون من نتائج فهذا غيب محض، لا يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل، ولذا كان التوكل هو الأخذ بالأسباب، ثم تفويض الأمر إلى الله تعالى وعدم النظر إلى هذه الأسباب، أي أنك مطالب ببذل الوسع والأخذ بالسبب المتاح على أتم وجه، ثم أنت مطالب بعدُ بتناسي هذا السبب الذي أخذت به بالكلية، لأن دوره قد انتهى، والأمر الآن بيد من إذا أراد شيئا قال له كن فيكون.. وقد تابع كل المهتمين بالشأن السياسي ما حفلت به الفترة الماضية من أحداث، وأخص هنا ذاك اللقاء الذي جمع رؤساء الأحزاب بالفريق سامي عنان، وما تضمنه من توقيعهم بالإجماع على الوثيقة التي عُرضت عليهم، لتبدأ حملة إنكار واسعة النطاق، استخدم فيها الشباب شتى الوسائل، كانت بمثابة طليعة الضغط على القيادات، لتعقبها التصريحات والبيانات الرسمية تعلن رفضها وتجهر بتراجعها! وإن عدّ البعض هذا الحدث برمته دليلا على التخبط وانعدام الآليات الصحيحة لاتخاذ القرار، فإننا –وسط ركام الإحباط هذا- ينبغي ألا نُغفل ذكر تلك الظاهرة الإيجابية إلى أبعد حد، والتي تبشّرنا وتعطينا شيئا من الأمل، هو من جنس ذاك الأمل الذي يملأ قلبك حين تقرأ حديث: (لا تحقرن من المعروف شيئا)، أعني أثر هذه الحملة على تغيير القرار بل وصناعة الحدث! فإنه كان من الوضوح بمكان، أن ذاك الإعلان برفض ما وقّع عليه رؤساء الأحزاب لم يكن أثرًا لاعتراض بعض الأفراد الفاعلين في الأحزاب أو الجماعات التي انبثقت منها تلك الأحزاب الموقعة، ولا ما تفتقت عنه أذهانهم من قراءة جديدة للحدث، بقدر ما كان أثرًا مباشرًا لهذا الضغط الذي مارسه الشباب على مواقع التواصل الاجتماعي وعلى صفحات الأحزاب تحديدا، وعبر الاتصال المباشر بالقيادات والمشايخ. وهكذا فلتكن الإيجابية، وهكذا فلنرض ربنا، الذي أمرنا على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ألو قامت القيامة –تأمّل!- وفي يد أحدنا فسيلة، فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها، فليغرسها! فمهما بلغ شأو من اخترناه قائدا لحزب أو جماعة أو حتى رئيسا للدولة، فإن ذلك لن ينزع عنه بشريته في يوم من الأيام، بل سيظل القصور والضعف البشري وصفًا لا ينفك عنه أبدًا، ولذا شرع الله تقويم خليفة المسلمين، أعلى سلطة في البلاد، وشرع النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم على حد السواء، كما في الحديث المشهور (الدين النصيحة..)، فالحمد لله وحده، ما أعظم فضله وما أحكم شرعه. وتأمل فيما قصه علينا ربنا من خبر سليمان والهدهد، كيف أحاط الهدهد بما لم يحط به سليمان، وكيف استمع سليمان عليه السلام إلى ما عنده وكيف تركه يعرض حجته، ثم كيف أفاد منه، وما ترتب على ذلك من إسلام ملكة سبأ، وياله من خير ساقه الله على يد الهدهد! فليس القائد –مهما بلغت خبرته وفضله ومنزلته- بخير من نبي الله سليمان عليه السلام، ولست أخي الشاب الصالح –إن أخلصت وتجردت- بأقل من الهدهد، والله عز وجل لا يضيع أجر من أحسن عملا. فلنتوكل على الله ولنعِ خطورة هذه اللحظات التي تمر بها الأمة، والتي يكون القرار الواحد فيها صانعًا لتاريخ يُدّرس لأولادنا وأحفادنا، والحذر الحذر من السلبية، فبصدعك وإخوانك بالحق قد تنقذ الأمة! وبسكوتك وسكوت غيرك وتقاعسك عن بذل النصيحة قد تكون مساهمًا في سوق البلاد إلى شر مستقر! ولنكن خيرَ معين محب مشفق لمن قدّر الله عليه أن يتجشم عناء القيادة، فالمتعين الذي لا يسعنا أي تقصير فيه: هو المناصحة والاعتراض بأدب وحسن بيان وعرض للحجة، مع إجلال ذي الشيبة المسلم الذي هو من إجلال الله، والظن بالمنصوح أن يستجيب متى ما حصحص الحق إن شاء الله. وصلى الله على القائل: (ألا لا يمنعن أحدكم هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه).. رواه أحمد والترمذي وابن ماجة، وصححه الألباني في الصحيحة.. والحمد لله رب العالمين..