هناك محاولات مستمرة لرسم صورة سلبية عن العلاقة بين الدين والسياسة. ويعني هذا ضمنا، أن الحفاظ على الوضعية الخاصة للدين، لا تتحقق إلا بحصر دور الدين، بعيدا عن الشأن العام والنظام العام. فالسياسة في نهاية الأمر، هي المجال الذي يتحدد من خلاله النظام العام للمجتمع والدولة، ويتم من خلاله التشريع الدستوري المحدد للقاعدة القانونية الأعلى الحاكمة للنظام السياسي، والحاكمة أيضا للأوضاع القانونية، بما فيه مسألة الحقوق والواجبات. ومن خلال التشريع أيضا يتحدد القانون المنظم لسلوك الأفراد والمحدد لحقوق المجتمع، والذي يحدد مجال المسموح والممنوع في التصرفات والأفعال.لهذا يصبح الفصل بين الدين والسياسة ليس حفاظا على الدين من صراعات السياسة، قدر ما هو حصر للدين في مجال محدود بعيدا عن الشئون العامة للأمة. ولكن البعض يرى أن دخول الدين في مجال السياسة، يؤدي إلى وجود تعارض بين ما هو نسبي ووقتي وبين ما هو مطلق. وبالطبع يعد مجال السياسة من المجالات التي تتأثر بالمواقف المرحلية والتغييرات اليومية. ولكن الأوضاع التأسيسية للسياسة، بدءا من الدستور إلى القوانين والنظام العام، وحتى السياسات العامة، يكون لها استمرارية ملحوظة في أي نظام سياسي مستقر. وبالتالي لا يمكن القول بأن السياسة هي مجرد مواقف لحظية متغيرة، وأن الدين يمثل مبادئ ثابتة، والصحيح القول بأن السياسة تمثل مواقف متغيرة تستند على قواعد وأسس عامة ومبادئ حاكمة. ومع هذا يتصور البعض أن العلاقة بين الدين والسياسية، تؤدي إلى استخدام تأثير الدين في تحقيق أغراض سياسية. وهذا الأمر يتوقف في الواقع على معنى العلاقة بين الدين والسياسة. فإذا قلنا مثلا أن السياسة تحكم الرأي الديني، عندئذ يصبح الموقف السياسي مستغلا لقوة الرأي الديني. أما إذا قلنا أن الدين يمثل الإطار الحاكم للسياسة، عندئذ يصبح الرأي الديني هو الذي يحدد الإطار المسموح للموقف السياسي. وبالتالي تكون العلاقة بين الدين والسياسة، متوقفة على نوع هذه العلاقة، وعلى الرابط بين الدين والسياسة. لهذا يمكن أن نحدد سلبيات وايجابيات العلاقة بين الدين والسياسة من خلال العلاقة بينهما، فمادام الدين هو الإطار الأعلى الحاكم للمبادئ والقواعد العليا والتي تتحرك السياسة من خلالها، فلا استغلال ولا استخدام للدين، بل هو تعظيم من شأن الدين وارتقاء بدور الدين في الحياة، حيث يصبح المنظم الأعلى للحياة والنظام العام. ومع هذا، نجد البعض يرى أن أي علاقة بين الدين والسياسة سوف تؤدي في النهاية إلى قدر من استغلال الدين، حتى مع افتراض أن الدين هو الإطار الأعلى المنظم للسياسة. ويقوم هذا الرأي على افتراض يرى، أن صاحب الرأي السياسي والذي يقدم رأيه بوصفه تعبيرا عن مبادئ الدين، يكسب رأيه قدسية تجعل الخلاف معه غير جائز، أو يكسب رأيه حصانة ضد النقد. وبهذا المعنى يستطيع فرض رأيه على الناس وعلى التيارات السياسية الأخرى. وأكثر من هذا يستطيع صاحب الرأي السياسي المستند لمرجعية المبادئ الدينية أن يواجه كل الآراء الأخرى ويرفضها على قاعدة عدم توافقها مع المبادئ الدينية، وكأنه بهذا يدين الآراء الأخرى ويتهمها بالخروج على الدين. وربما تكون تلك واحدة من الأمور الشائكة في مسألة العلاقة بين الدين والسياسة. ولنأخذ مثلا محددا، لا نقصده في حد ذاته، بل لتوضيح الصورة. فإذا رأى تيار سياسي ما أن معاملات البنوك تشمل تعاملات تقوم على الربا وهو ما يخالف الدين، ويرى تيار آخر أن تلك التعاملات لا تقوم على الربا. فهنا نرى أن كل تيار استند في الواقع على أسس دينية، وكلاهما يرفض الربا، ولكن هناك تيار لا يرى في تعاملات البنوك ربا، والآخر يرى أنها تقوم على الربا. والخلاف هنا في تفسير الواقع، وليس حول تحليل الربا. ولكن إذا ظهر تيار ثالث وقال أن معاملات البنوك تنطوي على الربا، ولكن تحريم الربا شأن ديني ولا علاقة له بالسياسة، فهنا يكون الخلاف حول دور الدين ومدى سلطانه العام على تنظيم شئون الحياة. وأمام هذا الرأي يحق للتيار الذي يأخذ من الدين مرجعية لمواقفه السياسية، أن يعترض على هذا الرأي ويصفه بأنه ضد الدين أو ضد مرجعية الدين لشئون الحياة، وأنه تحليل لما حرمه الدين، وتكون تلك هي الحقيقة. أردنا من هذا الوصول إلى حقيقة مهمة، ففي البلاد العربية والإسلامية، للدين مكانة لا يمكن تجاوزها، والواقع يشير إلى أن التيارات العلمانية والتي لا تقول بمرجعية الدين والحضارة، تحاول أن تبرر أفعالها وسياستها دينيا لتؤكد أنها لا تتعارض مع الدين. والاتجاهات العلمانية تحاول تمرير سياسات لا تتفق مع المرجعية الدينية، ولكن من خلال تبريرها دينيا، عن طريق السيطرة على الرأي الديني من قبل السلطة السياسية، ليصبح الرأي الديني في خدمة السياسة. وهو ما يعني أن كل الأطراف في الواقع لا تستطيع تجاهل دور الدين، لأن الدين حاضر لدى الأمة وتعتبره مرجعية لا يمكن تجاوزها. والقائلون بفصل الدين عن السياسة، يريدون في الواقع توظيف واستخدام الدين بحيث يكون الرأي الديني متوافقا مع الإرادة السياسية، ولا يريدون أن يكون الدين مرجعا أعلى من السياسة، حتى يصبح من الممكن تجاوز المرجعية الدينية في نهاية الأمر، وتحرير السياسة منها، إما بتجاهل الرأي الديني، أو بالسيطرة على المجال الديني لحساب النظام السياسي الحاكم.