بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، لم تعد أهداف البنوك المركزية مقتصرة فقط على تأمين الاستقرار النقدي وحماية النقد الوطني من مخاطر التضخم، وسلامة القطاع المصرفي، بل تطورت إلى تفعيل طاقات السياسة النقدية لمصلحة تنشيط الحركة الاقتصادية وتعزيز النمو، والمساهمة في تأمين الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. وعلى الرغم من انتقادات صندوق النقد الدولي المتتالية، أقدمت الولاياتالمتحدة على تنفيذ هذه السياسة في السنوات الأخيرة، فتركت ملفات الديون الحكومية التي تعاظمت إلى حد تجاوز كل الخطوط الحمراء الكلاسيكية في عالمي المال والاقتصاد، وكذلك ملفات العجز في الموازنة، وحددت هدفاً محدداً بتحفيز النمو الاقتصادي، ودعم تأمين الوظائف الجديدة للضغط على نسبة البطالة، واعتمد البنك الفيدرالي الأمريكي حوافز ماليه ساهمت في زيادة الاستثمار، ونجحت في تقليص نسبة البطالة إلى حد كبير، لتنخفض في فبراير/ شباط الماضي إلى 5.5%، وهي الأدنى في سبع سنوات، مع العلم أن هذه النسبة سبق أن تجاوزت العشرة في المئة مطلع عام 2010. وبعد تردد طويل، اضطر البنك المركزي الأوروبي اللحاق بالولاياتالمتحدة، حيث أعلن أخيراً وبالتحديد في التاسع من مارس 2015، عن تنفيذ خطة أطلق عليها "التيسير الكمي" وتهدف إلى إيجاد حلقة صالحة لتنشيط الاقتصاد، عن طريق عملية مكثفة لشراء ديون سيادية في إطار برنامج واسع مخصص لتحريك ديناميكية الأسعار الضعيفة في منطقة اليورو، وقدرت قيمة هذا البرنامج بنمو 1.14 تريليون يورو ويمتد حتى سبتمبر/ أيلول 2016، وبمعدل شهري يصل إلى 60 مليار دولار، وسيتم استثمارها في شكل خاص في سندات سيادية، وبشكل يدفع المصارف إلى استثمار أموالها في مجالات أخرى، خصوصاً اقراض الشركات والمستهلكين، فيتحرك الاقتصاد بمختلف قطاعاته. الاقتصاد العربي ولكن ما هو وضع الاقتصاد العربي بشكل خاص وما هي اهداف البنوك المركزية في البلاد العربية في ضوء التطورات الأميركية والاوروبية؟.. في ظل تحديات سياسية واقتصادية تواجهها المنطقة وتؤثر سلبا على الاقتصاد المحلي في سبيل خلق فرص عمل جديدة، ومع تزايد الأعباء المالية على الحكومات، يؤكد البنك الدولي ان للسلطات الرقابية والإشرافية وفي مقدمها البنوك المركزية "دوراً محورياً في تهيئة البيئة المؤسسية الداعمة والتي تحقق الشمول المالي، لتوسيع قاعدة المستفيدين من الخدمات المالية وزيادة فرص التشغيل ومحاربة الفقر". وأوضحت مديرة المشاريع في مجموعة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في البنك الدولي سحر نصر، "أن التحديات في المنطقة، رفعت درجة الأخطار بما يعزز أهمية دور البنوك المركزية والجهات الرقابية في الحفاظ على الاستقرار المالي، الذي يعتبر عاملاً اساسياً في تحقيق الشمول المالي"، ودعت إلى "السعي في دولنا العربية إلى تحقيق الرخاء الاقتصادي والتنمية المستدامة لشعوب المنطقة، في ظل أدوات وسياسات حكيمة تضبط إيقاع الأسواق، مع تحقيق فاعلية آليات السوق الحرة التي تضمن تعزيز المنافسة وزيادة الكفاءة الاقتصادية في توزيع الموارد". وبدوره أكد صندوق النقد العربي أهمية السياسة النقدية في مجالات السياسة الاقتصادية الكلية التي تنظم العلاقة بين النقود والنشاط الاقتصادي، بهدف تحقيق استقرار الأسعار وخلق مناخ مناسب لممارسة النشاطات الاقتصادية المتنوعة، ما يؤدي إلى دفع عجلة النمو الاقتصادي، ويرى مدير عام الصندوق عبد الرحمن بن عبد الله الحميدي أن "السياسة النقدية ترمي إلى تأمين الغطاء النقدي لدى ارتفاع طلب القطاعات الاقتصادية على الائتمان في حال الرواج الاقتصادي أو تخفيف الآثار السلبية للتقلبات الاقتصادية، بانتهاج سياسة انمائية واسعة في أوقات الانكماش، وتقييديه في حال الرواج، وبالتالي معالجة معدلات التضخم المرتفعة". أما في ضوء عدم نجاعة الأدوات التقليدية للسياسة النقدية في تنشيط الاقتصاد، فقد استشهد مدير عام صندوق النقد العربي بدول كثيرة، "انتهجت سياسة اقتصادية توسعيه خلال أزمة المال العالمية 2008، باستخدام ما يسمى بسياسة التيسير الكمي، من خلال شراء الأصول من البنوك لتوفير سيولة لديها، تمكنها من الاقراض والمساعدة في تسهيل الاوضاع المالية وتعزيز النمو الاقتصادي وتقليص معدل البطالة". هل تستطيع البنوك المركزية تطوير أهدافها بتحقيق النمو الاقتصادي؟.. وهل تسمح احتياطاتها المالية بذلك؟.. احتياطات رسمية وفق التقرير الاقتصادي العربي الموحد الصادر عام 2014، سجلت الاحتياطات الخارجية الرسمية الإجمالية للدول العربية في عام 2013 ارتفاعاً بلغت نسبته نحو 9 في المئة لتبلغ 1.375 تريليون دولار، وزادت نسبة تغطية هذه الاحتياطات للواردات السلعية للمستوى 20.3 شهراً، مقابل 19.9 شهراً للعام 2012، ويختلف حجم الاحتياطات بين دولة وأخرى وفق طبيعة اقتصادها، فبالنسبة للدول المصدرة الرئسية للنفط فقد بلغ 1.277 تريليون دولار، أو ما يعادل 92.8% من اجمالي الاحتياطات لدى البنوك المركزية العربية، مقابل نسبة 7.2% فقط أي نحو 98 مليار دولار لدى باقي الدول العربية. وعلى صعيد نسبة تغطية الاحتياطات الرسمية للواردات، فقد ارتفعت في السعودية لتسجل 56.8 شهراً وليبيا 56.2 شهراً، وقطر 15.7 شهراً، والكويت 14.9 شهراً، والأردن 7.6 أشهر، وتراوحت بين 3.4 أشهر و5.2 أشهر في كل من الامارات والبحرين ومصر والمغرب وتونسولبنان وعمان والعراق. وفي مقارنة بين بعض الدول العربية، يلاحظ خلل كبير في القدرة على استخدام السياسة النقدية لمصلحة تنشيط الحركة الاقتصادية وتعزيز النمو، ففي لبنان مثلاً لدى البنك المركزي احتياطي يصل إلى نحو 50 مليار دولار موزع بين 38 ملياراً عملات أجنبيه ونحو 12 مليار دولار قيمة موجودات الذهب، وهو بلد صغير لا يزيد عدد سكانه عن خمسة ملايين نسمة، في حين أن احتياطي مصر أقل من 16 مليار دولار (كان 35 مليار دولار قبل ثورة يناير) وهو بلد كبير يصل عدد سكانه إلى نحو 90 مليون نسمة، حتى أن الاردن الذي يبلغ احتياطه نحو 14 مليار دولار، يزيد عدد سكانه عن ستة ملايين نسمه. أما تونس فان حجم احتياطي البنك المركزي لديها يقدر فقط بنحو 7.2 مليار دولار وهو ضئيل جداً بالنسبة إلى حجم اقتصادها وعدد سكانها، وكذلك الأمر بالنسبة لليمن حيث تبلغ احتياطاتها من النقد الاجنبي أقل من خمسة مليارات دولار، وهي تعاني من ارتفاع التضخم. ولوحظ أن بعض الدول العربية النفطية تعاني من تراجع حجم احتياطاتها الرسمية مثل العراق والتي كانت في العام 2013 أكثر من 100 مليار دولار، ثم تراجعت بنهاية العام 2014 إلى نحو 68 مليار دولار. وقد حصل ذلك خلافاً لنصيحة صندوق النقد الدولي، بعد المس باحتياط العراق لتغطية عجز مالي أو لتسديد نفقات معينة، لكن وزير المال هوشيار زيباري أشار صراحة إلى "أن العراق يعاني أزمة سيولة نقدية لعدم وجود الأموال الكافية لتغطية النفقات"، وأضاف موضحا: "أن الأزمة المالية تعود إلى انخفاض أسعار النفط ونفقات شراء الأسلحة والمعدات العسكرية اللازمة لمواجهة إرهاب تنظيم داعش". وهناك معارضة نيابية لاقتراض الحكومة من المصرف المركزي، حتى أن عضو اللجنة الاقتصادية النيابية نورة البجاري طلبت من محافظ المصرف تبيان أسباب انخفاض حجم الاحتياط لديه، مستبعدة أن يوافق مجلس النواب على ذلك، لأن أرصدة هذا الاحتياط تعطي قوة لعملة العراق ولتعاملاته الدولية. وفي ظل استمرار الأزمات المالية والاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن السجال السياسي وتطورات الحرب على "داعش" وأعبائها المالية، يبدو العراق غير قادر على دفع المبالغ المستحقة عليه إلى شركات النفط الأجنبية والبالغة قيمتها 27 مليار دولار. وكذلك وضع ليبيا، وهي بلد صغير لكنه منتج للنفط، وبسبب تراجع انتاجه بسبب الاضطرابات الأمنية وسيطرة المسلحين على بعض مواقع الانتاج واضطرار الحكومة الانفاق من احتياطي البنك المركزي، الذي فقد في فترة شهرين فقط أكثر من خمسة مليارات دولار، حيث انخفض الاحتياطي من 100 مليار دولار في نوفمبر/ تشرين الثاني 2014 إلى 95 مليار دولار بنهاية العام، وفي هذا المجال حذرت الولاياتالمتحدة وخمس دول حليفة هي: بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، ايطاليا، وأسبانيا، من أن ليبيا على حافة انهيار اقتصادي بسبب تراجع انتاجها النفطي وهبوط الاسعار، حتى إن البنك الدولي حذر ليبيا من استنزاف احتياطها من النقد الأجنبي خلال أربع سنوات مع استمرار الاضطرابات السياسية والأمنية. أما بالنسبة للبنان، وهو مستهلك ويدفع فاتورة استيراد تزيد عن 22 مليار دولار سنويا، فقد اطلق رزمة حوافر بين عامي 2013 و 2015 تزيد عن 3.36 مليار دولار، ما ساهم في زيادة معدل النمو الاقتصادي، وقد أعلن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة اخيراً ان الاقتصاد اللبناني والقطاع المصرفي يعتمدان إلى حد كبير على التسليفات والتحفيزات التي يطلقها البنك المركزي، وهو يواكب تطورات المسؤولية الاقتصادية والاجتماعية، حيث تغيرت طبيعة عمل البنوك المركزية في تنفيذ سياساتها النقدية وتعزيز دورها الاقتصادي، من خلال مساندة الحكومات في خلق الظروف المواتية لتحقيق النمو المستدام. ديون سيادية لقد تجاوزت المديونية العامة الخارجية للدول العربية المقترضة ال 220 مليار دولار بزيادة نحو 40 مليار دولار خلال 2013 و 2014، وتعود الزيادة الكبيرة في هذه المديونية بالدرجة الأولى إلى لجوء عدد من الدول العربية إلى الاقتراض الخارجي لتمويل العجز المالي المتزايد، وتغير أسعار صرف العملات الرئيسية المكونة لهذه المديونية، مع استمرار تداعيات التحولات السياسية التي ألقت بظلالها على الأوضاع الاقتصادية. وفي الوقت نفسه، تأثرت المديونية الخارجية العربية سلباً بانخفاض حجم المنح الخارجية التي تغطي جزءاً من العجز في مالية الحكومة في عدة دول عربية مقترضه، وقد شكل استمرار السياسة المالية المتحفظة للدول الصناعية المتقدمة، وخصوصاً دول منطقة اليورو جراء أزمة الديون السيادية، السبب الرئيسي وراء تراجع قدرتها على توفير المساعدات للدول العربية المقترضة. واذا كان البنك المركزي الاوروبي قد أعلن مؤخراً عن خطة إنقاذ بشراء الديون السيادية في منطقة اليورو، فهل تستطيع البنوك المركزية العربية، وخصوصاً في الدول المنتجة للنفط، بما تملك من احتياطات رسمية كبيرة من العملات الأجنبية، شراء الديون السيادية في المنطقة العربية؟.. في الواقع، تستطيع ذلك وبسهوله، وهي تقوم منذ فترة طويلة في السعي لتحقيق التكافل الاجتماعي والتكامل الاقتصادي، وتقدم المساعدات المالية للدول المستهلكة، وتدعم البنوك المركزية بإيداعات نقديه، مثل لبنان والأردن ومصر وتونس، ولكن تبقى الخطوة الكبرى الضرورية في انشاء بنك مركزي عربي، مثل البنك المركزي الاوروبي لتحقيق الهدف النقدي والمالي المنشود، وهو خاضع لقرار سياسي يجب أن تتخذه الحكومات، لكنها يبدو منشغلة الآن بتطورات سياسية واضطرابات أمنية تشهدها المنطقة العربية، وهي أهم من التطورات الاقتصادية.