عقب الثورة اجتهد كثيرون ممن خدموا بإخلاص فى " بلاط " مبارك وابنه فى إثبات ثوريتهم المتقدمة على كل الثورات وكيف أنهم كانوا بمثابة " الطليعة الثورية " التى مهدت الطريق لثورات الربيع العربى !! وإمعاناً فى " الحبكة " الفنية يذكرون المستمع ب " المقال " الذى نشر يوم كذا وقال فيه كذا أو الحوار الذى أذيع يوم كذا ولم يسكت فيه لأحد وطبعاً المستمع المسكين ليس أمامه إلا مصمصة الشفاة حسرة وألماً فلا أحد يذكر شيئاً سوى أن معظم هؤلاء كانوا من طليعة المنافقين والمزيفين الذين لعبوا دور السدنة لكبار الأصنام التى نصبوها آلهة فى وعى الجماهير . وفى زحمة الأحداث تناسى الجميع مأساة واحد من أشرس المعارضين الحقيقيين لمبارك ونظامه منذ سنواته الأولى . لقد وعى العالم الفاضل د./ عمر عبد الرحمن طبيعة مبارك الديكتاتورية والسلطوية منذ فترة مبكرة من حكمه ورفض رفضاً تاماً أن يهادنه أو يلين معه فانطلق صادعاً بالحق مهاجماً لمبارك ونظامه فى كل مكان يذهب إليه حتى عندما فرضت عليه الإقامة الجبرية فى منزله رفض الشيخ الضرير الاستكانة لها وكان يهرب من الحراسة الرابضة تحت منزله طيلة أربع وعشرين ساعة بحيل طريفة رغبة فى التواصل مع محبيه ومؤيديه وتأكيداً وتصميماً على الصدع بالحق الذى نذر له نفسه مما كلفه حريته بدءاً من عهد الرئيس عبد الناصر ومروراً بعصر الرئيس السادات وانتهاء بعهد مبارك الذى شهد تضييقاً واسع النطاق على الشيخ ودعوته . وللأسف الشديد فإن فضيلة العالم المجاهد مازال يتعرض لظلم لكبير داخل مصر قبل أمريكا حيث سجنه البغيض الذى أخذ ما تبقى من صحته وعافيته وتركته يصارع الموت وينتظره يوماً بعد الآخر ففى مصر لازالت الصورة النمطية التى رسمها إعلام مبارك للعالم المجاهد مطبوعة فى وعى كثيرين حيث صوره الإعلام على أنه أحد دعاة العنف والإرهاب وأحد الذين يفتون لسفك الدم الحرام بأعصاب باردة ... إلخ وهذه محض افتراءات على العالم الجليل لم تمح حتى الآن فالرجل كان رمانة الميزان فى علاقة الجماعة الإسلامية بالدولة المصرية وكان حاجزاً للشباب عن مستنقع العنف والصدام وكان كثيراً ما يتدخل بحكمته لنزع فتيل العديد من المشاكل قبل استفحالها ففى عام 86 أطلق أحد المخبرين النار على أحد شباب الجماعة الإسلامية فى أسيوط بسبب قيامه بلصق إعلان عن درس أو لقاء أو ما شابه ذلك فأرداه قتيلاً وتكهرب الجو فى أسيوط وتحفز الشباب للرد على مقتل زميلهم وصمموا على ذلك فما كان من الدكتور / عمر إلا أن تدخل بحكمته ورجاحة عقله ومنع تفجر الموقف بين الطرفين حتى إن الموقف الأشهر الذى ذاع عن الرجل بأنه أفتى بقتل الرئيس الراحل السادات عام 81 قمت بالاستيثاق منه ممن اشتركوا فى التخطيط والتنفيذ لتلك العملية والذين أكدوا لى أن الرجل لم يفت بشىء وأنه كان هارباً حينها ولكن الصورة النمطية الذهنية الخاطئة مازالت هى حاكمة الموقف . وقد واجه الرجل الموت مرات عديدة لعل أبرزها حين طالبت نيابة أمن الدولة العليا بإعدامه عقب أحداث المنصة واغتيال الرئيس السادات ووقف الرجل مدافعاً عن نفسه فى خطبة بليغة رائعة جعلها سبباً فى إنقاذه بعد قناعة القاضى بسلامة موقفه وأن لم يكن سوى رجل قال ربى الله ولم يخش سواه وقام مذكراً الحكام بربهم وفاضحاً لسوء حكمهم وتنكيلهم بشعوبهم . هذا الرجل العالم المجاهد فر خارج مصر ليبلغ دعوته ويكمل مسيرته فى فضح نظام مبارك ولكن أوقعت به شياطين الأنس من عملاء لأجهزة الأمن الأمريكية ومساعدة من نظام مبارك ليزج بالرجل فى السجن مدى الحياة وفق قانون لم يطبق إلا عليه ولم تكتف أمريكا بذلك ولم ترحم تقدم سنه وفقده لبصره ومكانته العلمية فأمعنت فى إيذائه البدنى والنفسى فى محبسه وحرمته من المعاملة الآدمية والحقوق الإنسانية حتى أشرفت نفسه على الهلاك بعد أن جاوز السبعين وتمكنت منه الأمراض وأقعدته عن الحركة . وكان المأمول أن يكون ملف استرداد العالم المجاهد على رأس أولويات حكومة " الثورة " باعتباره مواطناً مصرياً وباعتباره عالماً جليلاً من علماء الأزهر الشريف والأهم من كل ما تقدم باعتباره المعارض الأشرس لمبارك ونظامه الذى قامت الثورة للتخلص منه . ولكن حتى الآن لم يتقدم الملف خطوة للأمام رغم وفرة الرائحين والغادين من وإلى أمريكا فهل يمكن أن تشكل زيارة وزير الدفاع الأمريكى لمصر اليوم فرصة لعودة العالم المجاهد خاصة وأن الزائر الأمريكى سيضع قضية الإفراج عن الجاسوس الأمريكى إيلان جرابيل على رأس أولوياته . ولنجعلها رأساً برأس وليست كل الرؤوس سواء على أية حال . ومن هنا فإننا نذكر أهل الحكم بمأساة هذا العالم الجليل الذى بات من العار أن يبقى قابعاً فى سجون أمريكا بعد الثورة المصرية التى كان واحداً ممن مهدوا لها بحق وصدق دون إدعاء أو تزييف . [email protected]