فى الحقل السياسى تتردد دعوى استغلال الدين لتحقيق أهداف سياسية وتزداد وتيرة هذه الدعوى فى الآونة الأخيرة، لتعميق الفهم الخاطئ السائد لدى كثيرين بانفصال الدين عن الدولة، والدين عن السياسة وانفصال الحكم عن الإسلام، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى لتخويف جمهور الناخبين فى المشهد السياسى من دعاة الإسلام الشامل. وكلما ازداد نشاط الإسلاميين فى الحياة السياسية واقتربوا من الجمهور ازدادت مخاوف أصحاب تلك الدعوى أكثر، وارتفعت وتيرتها، وشنت الحملات تلو الأخرى قبالة ضغط المد الإسلامى المتنامى والصحوة الإسلامية الصاعدة فى الشارع العربى، والمصرى منه على وجه الخصوص. وهذا بلا شك يعُدّ ضربًا من الخلط والمغالطة ينبئ عن جهالة مدعيها بحقيقة الإسلام. كما يعُدّ مصادرة لحقوق المواطنين تحول بينهم وبين ممارسة حقهم المشروع فى العملية السياسية. كما يعُدّ أيضًا إن أحسنا الظن بمن يطلقونها حكمًا على النوايا التى لا يعلمها إلا الله تعالى، وتنقيبًا عما فى قلوب الناس نهينا عنه شرعًا. وكذلك يقع ذلك منافيًا لأبسط القواعد القانونية وأبجديات التصور السياسى حتى فى النظم العلمانية التى تقرر حق جميع مواطنى الدولة فى ممارسة العمل السياسى، وتقلد مناصب الحكم ترشيحًا وتصويتًا. ومن العجيب أن تصدر تلك الدعوى فى بلادنا من مسلمين يمارسون العمل السياسى، وكانوا يشاركون فى المجالس النيابية، بل وبعضهم كانوا أعضاء فى مجالس صنع القرار. ولكن سرعان ما يزول العجب إذا علمنا أنهم يمارسون السياسة ويتعاطون الحكم وفق نظرة العلمانية التى تفصل الدين عن السياسة، فالدين شئ والسياسة شئ آخر، ، والسؤال الذى يطرح نفسه الآن. إذا كان الإسلاميون متهمين باستغلال الدين لتحقيق أهداف سياسية، فلماذا لا يستغلون هم أيضًا الدين لتحقيق أهدافهم السياسية؟ والجواب: أنهم أعجز من ذلك لأن الدين والتمسك به أمر ينبع من الداخل، ولا يستطيع أحد أن يقوم بتمثيل هذا الدور، لأن الذى يدعى التدين والتمسك بالإسلام يكون تحت مراقبة الجماهير تعد عليه أنفاسه، وتراقب حركاته وسكناته. إنها تضعه تحت المجهر فإن لم يكن صادقًا فيما يدعيه، ونموذجًا صحيحًا لما يدعو إليه، انصرفت عنه الجماهير وعدَّته فى عداد المخادعين والمدلسين، لأن ادعاء التمسك بالإسلام لا يحسنه الممثلون. دعوى تتعارض مع منطق الإسلام وحقائقه التاريخية وفى تحليل أستاذنا الدكتور العوا أن هذه الدعوى، أو هذا الرأى لا يتسق مع منطق الإسلام، كما أنه يخالف حقائقه التاريخية: فأما عدم اتساقه مع منطق الإسلام، فلأن الدولة فى الإسلام جزء من تعالىمه، والإسلام دين بقدر ما هو قانون، وعقيدة بقدر ما هو نظام كامل للحياة،. ومن ثم فليس مما يتفق ومنطق الإسلام أن يفصل الحاكمون أو يقبل المحكومون الفصل بين تعالىم الإسلام وسياسة الدولة الإسلامية، إذ ليست الثانية إلا فرعًا عن الأولى. وأما عن مخالفة هذا الرأى لحقائق التاريخ الإسلامى فلأن هذا التاريخ منذ هجرة الرسول ☺ إلى المدينة، وحتى إلغاء الخلافة الإسلامية فى تركيا. لم يكن إلا تاريخ الدولة الإسلامية التى شادت حضارة من أعظم حضارات الدنيا. إن لم تكن أعظمها على الإطلاق من خلال نظام سياسى حقق للناس بالإضافة إلى حريتهم وكرامتهم عدالة استطاعوا فى ظلها أن يقوموا بأعباء الدعوة والدولة معًا، وأن يقوموا بحمل مشعل الحضارة العالمية عددًا من القرون. وفى ضوء ما سبق حينما يدعى بعض الناس اليوم أن العمل السياسى من دعاة الإسلام غير مقبول، وأن الإسلام سلوك فردى، وعمل حضارى، وتعالىم خلقية فحسب، فإن دعواه تعنى الحكم بتخطئة المسلمين جميعًا على امتداد تاريخ الإسلام كله، إذ لم يقل أحد خلال هذا التاريخ بفصل تعالىم الإسلام عن العمل السياسى، أو بحرمان فقهاء الإسلام وعلمائه ودعاته من العمل السياسى . ويتساءل الدكتور العوا :هل غابت عن هذه الأجيال التى لا يَحُد علماءها حصر مبررات هذه الدعوى؟ أم تبينوها وتجاهلوها استغلالًا من جانبهم للدين فى تحقيق أطماعهم السياسية؟ ثم يجيب اللهم إن الأمر لا هذا ولا ذاك، ولكن علماء الأمة الإسلامية على طول تاريخها فقهوا من الإسلام مالا يفقهه أصحاب هذه الدعوى، وأدركوا من حقائقه ما لا يدركون، وبينوا من دراساتهم، كما أثبتوا بعلمهم صواب ما فقهوا، ونتائج ما أدركوا . ونوجه كلمتنا إلى الذين يؤمنون بالحريات، وحرية الرأى والتعبير على وجه أخص، وإلى الذين ينادون بحقوق أفراد الأمة فى المشاركة السياسية، وإلى الذين يتشدقون بحقوق الإنسان ويقرون بها حقًا مقدسًا لكل مواطن من مواطنى الدولة بعيدًا عن الجنس واللون والدين واللغة، إلى الذين يؤمنون بهذا كله نقول: لا يليق بكم باسم الخوف من الحكومة الثيوقراطية - التى لم يعرفها الإسلام ولا تاريخه - وغلبة رجال الدين فى الحكم على ما فى هذا الوصف من تحفظ أن تغمطوا علماء الدين أو علماء الإسلام على الأصح حقهم فى المشاركة السياسية الذى يكفله لهم الدستور الوضعى، فضلًا عن الدستور الإسلامى، كما لا يجوز استبعاد علماء الدين أو رجاله عن ممارسة الحقوق السياسية أو المشاركة فى العمل السياسى بما فى ذلك المشاركة فى تولى مناصب الحكم كلها، بحجة الخوف من أن يسيطر هؤلاء على دفة الحكومة، لأنهم فى البدء والمنتهى، مواطنون يجب كفالة حقوق المواطنة كافة لهم بل أبعد من ذلك يرى الدكتور العوا أن فى مشاركتهم فى العمل السياسى ما يدرأ كثيرًا من المفاسد عن مجالات هذا العمل، ويقدم القدوة التى تحول دون انطلاق الشباب المسلم المتمسك بدينه نحو الغلو الممقوت، أو انجرافه فى تيار الانحراف العقيدى أو السلوكى، بما يجره ذلك كله على الأمة كلها من ويلات ويوقعها فيه من عثرات بل طامات . مدير مكتب الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين بالقاهرة