عندما اندلعت انتفاضة الأقصى أواخر سبتمبر عام 2000، كان هناك من قال: إن السلطة الفلسطينية في ذلك الوقت قد شجعت اندلاع الانتفاضة من أجل تحسين مكانتها في المفاوضات، لاسيما بعد فشل مؤتمر "كامب ديفيد"، الذي جمع الرئيس الراحل ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود براك أواخر عام 1999. وهناك من المؤشرات ما تمنح بعض المصداقية لهذا الرأي. لكن مما لا شك فيه أن ما آلت إليه الأمور خلال انتفاضة الأقصى كان مغايرًا تمامًا لحسابات قيادة السلطة في ذلك الوقت. والآن هناك من يتبنى الحجة القائلة بأن الرئيس محمود عباس عندما توجه للأمم المتحدة لطلب العضوية الكاملة في المنظمة الدولية، إنما أقدم على ذلك من أجل تحسين موقع السلطة التفاوضي، بدليل تشديده على الالتزام بخيار المفاوضات. قد يكون هذا واردًا في خلد عباس، لكن كل المؤشرات تدلل على أن خطوته الأخيرة تحديدًا ستسهم في طيّ صفحة المفاوضات كخيار لحل القضية الفلسطينية، وقد تفتح أمام الفلسطينيين مجالات نضال سياسية حقيقية تترك آثارًا سلبية على المشروع الصهيوني، وتعمل على إحداث مزيد من التآكل في شرعية الاحتلال، وتقلص هامش المناورة أمام ربيبتها الولاياتالمتحدة. إنجازات ملموسة يمكن للمرء أن يتفق مع الرئيس عباس ويمكن أن يختلف معه، لكن مما لا شك فيه أن قراره بالتوجه للأمم المتحدة وخطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة قد نجح حتى الآن في تعميق المأزق الإسرائيلي الأمريكي بشكل غير مسبوق. صحيح أن الأحكام التي سنسردها لاحقًا تتوقف على الخطوات التي سيقدم عليها عباس بعد عودته ل"رام الله"، حيث يفترض أن يجد ما جاء في الخطاب ترجمته على الواقع العملي، وعلى وجه الخصوص على صعيد العلاقات الوطنية والموقف من إسرائيل. لكن ومع ذلك يمكن القول بأن ما نجح عباس في تحقيقه خلال عدة أيام من العمل لم تفلح المفاوضات في إنجازه على مدى 18 عامًا. وإن كان كاتب هذه السطور قد انتقد عباس في كثير من المرات، بسبب أدائه الوطني المثير للجدل، فإنه مما لا شك فيه أن هناك إنجازات باتت ملموسة بعد هذه الخطوة في أعقاب توجهه للأمم المتحدة وخطابه أمامها: أولًا: مما لا شك فيه أن الخطاب الذي ألقاه عباس يختلف تمامًا عن كل الخطابات التي ألقاها في الماضي، والتي حرص فيها في الأغلب على تعمد عدم فضح إسرائيل وإبراز فظائعها، وفي المقابل عدم الاهتمام بإبراز معالم المعاناة الإنسانية للفلسطينيين تحت الاحتلال، لكن ما جاء في خطاب عباس يشكّل في الواقع وثيقة إدانة قوية للاحتلال، حيث سمى الأشياء باسمها الحقيقي دون مواربة. ثانيًا: ضمن عباس مواقف واضحة من الكثير من الثوابت الوطنية، وعلى رأسها رفض يهودية إسرائيل التي يعني الاعتراف بها التنازل عن حق العودة للاجئين، والالتزام تجاه قضية الأسرى وفلسطينيي 48، بالطبع هذه المواقف تنبع من برنامجه السياسي المنادي بدولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو. ثالثًا: يمكن للمرء أن يلحظ حجم الانتكاسة التي منيت بها إسرائيل والولاياتالمتحدة في أعقاب خطاب عباس عبر موجات التصفيق الحادة التي قوبل بها الخطاب، وهو ما لم يحظ به خطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما، الذي قوبل خطابه المتواطئ مع إسرائيل ببرود واضح. ولا نريد التحدث عن الكيفية التي استُقبل بها خطاب نتنياهو. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على حجم العزلة التي باتت تعيشها إسرائيل والولاياتالمتحدة. ومن الواضح أنه إذا واصل الطرف الفلسطيني التصدي للضغوط الأمريكية والأوروبية والعربية، وأصر على طرح الطلب الفلسطيني للتصويت على مجلس الأمن، وفي حال اضطرار واشنطن لاستخدام حق النقض الفيتو ضد المشروع، فإن هذا سيفاقم عزلة أمريكا ومأزقها الدولي، وهذا إنجاز ليس بالبسيط في ظل الواقع القائم. رابعًا: تؤذن التطورات الأخيرة بوضع حدٍّ لاحتكار الولاياتالمتحدة ملف الوساطة والإشراف على المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، في حال تغيُّر الظروف بشكل موضوعي لاستئنافها. فمن الواضح أن نقْل المواجهة للأمم المتحدة بعكس رغبة أمريكا ورغم الضغوط التي مارستها، سيفتح المجال لنزع هذا الملف من بين أيدي الأمريكيين، فقد بات في حكم المؤكد أن الرؤساء الأمريكيين يوظفون ملف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية لتحسين حظوظهم الانتخابية عبر تملق جماعات الضغط اليهودية بإملاء مطالب إسرائيل على الجانب الفلسطيني، كما يحلو لأوباما فعله حاليًا، وعلى أسوأ وجه. خامسًا: إن أكثر ما يثير إحباط كلٍّ من تل أبيب وواشنطن حقيقةً أن التحرك الفلسطيني يأتي في أوْج ثورات التحول الديمقراطي في الوطن العربي، التي باتت ترى فيها الولاياتالمتحدة وإسرائيل طاقة كامنة هائلة لتهديد مصالحهما الاستراتيجية. من هنا تنبع الخشية الأمريكية الإسرائيلية من أن تؤدي تداعيات استحقاق سبتمبر إلى تغيير الواقع الأمني في الضفة الغربية بعكس ما يخطط له أبو مازن، لاسيما في أعقاب تواصل الفراغ الذي خلفه توقف المفاوضات. ومن الواضح أن هذا يفتح المجال أمام تطورات أمنية تمثل تهديدًا للمصالح الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة. قصارى القول، أن استحقاق سبتمبر يمكن أن يمثّل نافذةً لفرص فلسطينية كبيرة وواعدة في حال عمل أبو مازن وفريقه على هدي الخطاب الذي ألقاه في الأممالمتحدة، وأعاد تقييم برنامجه السياسي بالكامل، وهذا لا يعني بالمطلق تبني برامج الفرقاء الآخرين في الساحة الفلسطينية، بل أنْ يشكِّل استحقاق سبتمبر مقدمةً لتوافق فلسطيني شامل على برنامج وطني مشترك. المصدر: الإسلام اليوم