هل كان يتعين على معتقلي غوانتنامو أن يقدموا على الانتحار ووضع حد لمعاناتهم التي طال أمدها حتى تتوقف كاميرات التلفزيون و أقلام الصحفيين عند هذه المأساة التي تحدث في عصر "العدالة المطلقة" التي يبشر بها الرئيس بوش؟ أم هل أن القضية لا تستلزم التعاطي معها بطريقة مختلفة بما أنها صارت تدخل تحت خانة الروتين اليومي الذي لا يعيره الرأي العام العالمي كبير انتباه و لم يعد أمام أصحابها من خيار غير هذا الذي أطلعتنا عليه وكالات الأنباء صبيحة السبت الأخير؟ الواقع أن قضية معتقل غوانتانامو تجاوزت درجة التجاذبات السياسية الداخلية في الولاياتالمتحدة و صارت الآن ذات أثر عالمي على عكس ما يتوهم البعض . بمعنى أن تأثيراتها باتت الشغل الشاغل لكل المهتمين بتقصي واقع ما تسميه منابر الإعلام الأمريكية و لواحقها "الحرب على الإرهاب" بعد أن باتت هذه الأخيرة لا تختلف كثيرا عما كان يفترض أنها تحاربه. في هذا الإطار كتبت جريدة لوفيغارو الفرنسية معلقة على هذا التطور غير المتوقع تقول: "إذا كان لحوادث الانتحار هذه من أثر فإنها سوف تساهم بلا شك في الرفع من حدة مطالب إغلاق معتقل غوانتانامو الآخذة في التصاعد و الضغط على الرئيس بوش الذي قال أنه ينتظر قرار المحكمة العليا بشأن مدى مشروعية المحاكم العسكرية التي تأسست خصيصا لأجل محاكمة المعتقلين في إطار الحرب على الإرهاب و فيما إذا كان يتعين إلغاؤها و الاكتفاء بمحاكمة هؤلاء أمام المحاكم المدنية". و إذا كنا نلحظ هنا التحامل الكبير على مأساة هؤلاء ، فإن الأمر لا يجب أن يفاجئنا كثيرا ، بمعنى أن الموقف هذا كان متوقعا من قبل هذه الصحيفة اليمينية و التي لم تخف يوما دعمها اللامشروط لمعايير العصر الأمريكي . إذ كيف يمكننا أن نفهم عدم الاكتراث الذي تعاملت به الجريدة الباريسية و هي التي لم تكلف نفسها عناء محاولة فهم دوافع القضية و اكتفت بالإشارة إلى مخلفات القضية بقولها: "في مركز الحقوق الدستورية الذي يعمل به عدد كبير من المحامين يتولون الدفاع عن أكثر من مائتي معتقل في غوانتانامو، لم يكن أحد هنالك يعلم حتى مساء السبت فيما إذا كان أحد المنتحرين من زبائن المركز" مع إشارة مقتضبة وردت على لسان بيل غودمان، المدير القانوني للمركز، قال فيها: "إن هؤلاء الناس معتقلون هناك بطريقة عمياء غير محددة فضلا على أنهم لا يملكون أدنى وميض أمل في عدالة مستقبلية؟". أما الجريدة الفرنسية الأخرى لوموند فلقد أوردت في سياق تعليقها على القضية تقول: "على الرغم من أن المتحدث باسم البيت الأبيض الأمريكي، توني سلو أعلن أن الرئيس بوش عبر عن "انشغاله العميق" و أن الإدارة قررت أن تفتح تحقيقا في الحادث وكّلت به مصلحة التحقيقات الجنائية التابعة لسلاح البحرية، فإن المدافعين عن حقوق الإنسان لا يريدون تقبل المقاربات الرسمية لهذه الإدارة بما أن حالات الانتحار هذه لا تمثل غير حلقة جديدة من مسلسل محاولات انتحار سابقة" قبل أن تواصل: "في بداية شهر آذار/مارس المنصرم، كشف الجيش الأمريكي عن فحوى رسالة كتبها أحد المعتقلين هناك و هو البحريني جمعة الدوسري سلمها لأحد محاميه قبل أن يقدم على محاولة فاشلة للانتحار ، و لقد ورد في رسالته ما نصه: "يتعين عليكم أن تتذكروا أن هنالك المئات من المحتجزين في قاعدة خليج غوانتانامو في كوبا، في نفس ظروف المعاناة و الذين جرى اعتقالهم دون ذنب و لا وجه حق فإلى متى ستستمر هذه المأساة ؟"". واقع المعتقلين في تلك القاعدة التي تشرف عليها الولاياتالمتحدة منذ العام 1903 بموجب الاتفاق الذي تلا الحرب الأمريكية الإسبانية وقتذاك، لم يعد يحتمل التعتيم ، على الرغم من أن الإدارة البيضاوية لم تدخر جهدا في سبيل أن ينشغل العالم بغير هذه المأساة ، فضلا على أن كل الأدلة تجمع على أن الحرب الأمريكية على " الإرهاب " صارت لا تتوانى عن اقتراف أبشع صنوف التعذيب لأجل الوصول إلى المعلومات التي يؤكد محققو أجهزة الاستخبارات هناك ضرورتها و أثرها في سير الحرب ، من غير أن يلحظ هؤلاء المحققون أن أغلب المعتقلين ووفقا لآخر الإحصاءات من الذين جرى احتجازهم و لما يبلغ أكثرهم سن التكليف القانونية بعد. يقودنا هذا بكل تأكيد إلى الاستنتاج أن أمريكا لا تحتجز في معتقلها هذا غير الأشخاص الثانويين في هذه الحرب بمعنى أن الأسماء المهمة في تنظيم القاعدة التي تم توقيفها لا وجود لها هناك و ليس أدل على هذا من اسم خالد الشيخ محمد الذي يقال إنه الرأس المدبر لهجمات 11 سبتمبر، و هو الذي تم توقيفه على حسب الرواية الرسمية طبعا، في باكستان خلال شهر آذار/مارس 2003 و لا يعلم أحد عدى، كبار المسئولين في واشنطن عن مكان اعتقاله شيئا . بمعنى أن هنالك أسماء أخرى و معتقلات أخرى لم يعد أحد يشك في وجودها عبر العالم من غير الحاجة إلى أن نقول هنا إن أغلب هذه المعتقلات تقع في بلدان لا تكترث كثيرا لمفاهيم حقوق الإنسان و لا وجود لرأي عام مؤثر فيها ، بمعنى أن بلداننا العربية تقع في رأس قائمة الدول المرشحة لإيواء مثل هذه النشاطات بكل أسف ! أما جريدة النيويورك تايمز فكتبت في افتتاحيتها ليوم الأحد الأخير تقول: "لقد ارتفعت حدة الضغوطات والانتقادات التي تمارسها الحكومات الأجنبية و المنظمات الدولية على إدارة الرئيس بوش حول ظروف الاعتقال و المعاملة التي يتعرض لها المعتقلون هناك" ثم تواصل ذات الصحيفة حديثها بالإشارة إلى تطور قضية تلك المعتقلات السرية خصوصا بعد أن توصلت اللجنة الخاصة التي أسسها البرلمان الأوروبي حول قضية الرحلات السرية و التي أثبتت نتائجها، تورط عدد كبير من حكومات القارة العجوز في الفضيحة منذ بدايتها ، و التي لم تنكشف أسرارها إلا خلال شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي حينما تكفلت جريدة الواشنطن بوست بالمهمة من خلال الصحفية دانا بريست مثلما هو معروف. الواشنطن بوست و التي باتت تسبب حرجا كبيرا لإدارة الرئيس بوش ، لم تفوت المناسبة هذه فأوردت تعليقا على الموضوع يقول: "ما زال موظفو كتابة الدولة للعدل يهنئون أنفسهم بما أنهم استطاعوا أن يحفظوا حياة زهاء 759 معتقلا ، و هو العدد الإجمالي للذين جرى توقيفهم في معتقل غوانتانامو قبل أن يصير أن يتقلص هذا العدد حاليا إلى 460 ، إن هؤلاء الموظفين فرحون بما أن ثلاثة فقط تمكنوا من أن يضعوا حدا لحياتهم". في هذا الكلام نقد لاذع للكيفية التي باتت تتعامل وفقها الأجهزة القضائية مع هؤلاء الناس و لعل فيها أيضا، رد على الجنرال جون غرادوك، قائد القيادة الجنوبية للقوات الأمريكية التي تنتمي قاعدة خليج غوانتانامو إليها. هذا العسكري لم يجد في اللغة الإنجليزية كلها غير هذه الكلمات: "إن هؤلاء الناس ماكرون و مصرون على مواقفهم. إنهم لا يملكون أي اعتبار لحياتهم فضلا عن حياة الآخرين. إنني أعتقد أن الأمر لا يتعلق بانتحار يفيد بأن هؤلاء قد فقدوا الأمل لأنهم بهذا العمل يكونون قد أقدموا على القيام بعمل يدخل في سياق الحرب التناظرية ضدنا". بالمختصر المفيد، إن الرجل يريد أن يجعل من هذه المأساة الجديدة، حلقة يضيفها إلى سجلات التهم الجاهزة بما أنه قد تكفل بعدّها ضمن العمليات التي تستهدف الولاياتالمتحدة وهيبتها . أخيرا فإن قاعدة غوانتانامو – سيئة الصيت - والتي باتت من أشهر بقاع الأرض ، في إطار هذه الحرب الأمريكية التي يبدو و أنه لا آخر لها، صارت محل تناقض داخلي في أمريكا و إن كان الرئيس بوش هو من أمر بإقامة المعتقل فوقها بعد أن منعته القوانين الفيدرالية من أن يحبس أسرى أفغانستان في سجونها الاتحادية، فلقد بات هو نفسه لا يخفي رغبته في غلقها خصوصا و أنها صارت تحرج إدارته بشكل لم يعد ممكنا الاستمرار في التغاضي عنه بدليل أن شعبيته ما انفكت تتدهور واضعة بالتالي كل آمال إعادة انتخاب حزبه الجمهوري في موعد التجديد النصفي لمقاعد الكونغرس في شهر نوفمبر القادم على المحك خصوصا و أن إدارته ذاتها، تقدم أرقاما تفيد بأن الذين جرى توجيه الاتهام إليهم رسميا لحد الساعة لا يتجاوزون، العشرة أشخاص ، أو بعبارة أخرى: 2 بالمائة من المعتقلين بعد أكثر من أربع سنوات من هذه "الحرب المقدسة" في نظر الكاوبوي جورج ووكر بوش !! المصدر : الاسلام اليوم