عُرف عن الأستاذ عبدالمتعال الصعيدى ثقافته الموسوعية المتشعبة فى الآداب، والتاريخ.. كان يدعو إلى التجديد فى كتبه وأبحاثه ومقالاته ومحاضراته..، ترك ثروة علمية مازال الباحثون يرجعون إليها إلى يومنا هذا، منها :" تاريخ التجديد فى الأزهر"، و"حرية الفكر فى الإسلام"، و"شرح القصائد العشر (المعلقات)"، و"القضايا الكبرى فى الإسلام"، و"تاريخ الجماعة الأولى للشبان المسلمين"، ثم هذا الكتاب الموسوعى"المجددون فى الإسلام" الذى أفرز فيه كل معارفه، فجاء الكتاب موسوعة فريدة فى بابها، استقصى فيه تاريخ التجديد فى الإسلام ومعالم الازدهار والانحدار فى التاريخ الإسلامى بعمق ورؤية علمية رصينة، قدمه للمسلمين فى عصره، وقد كان الرجل يرى من حوله أئمة التغريب الذين حاولوا تلوين المجتمع الإسلامى بلونهم، يتهمون الإسلام بأنه عائق ضد التقدم والتحضر، فأراد الرجل أن يرد على هؤلاء برصده للظواهر الصحية فى تاريخ المسلمين سارداً للمجددين منهم منذ القرن الأول إلى القرن الرابع عشر الهجرى لينتفع بدرسهم فى زمن عقمت فيه عن تخريج أمثالهم ، ويفتح الطريق لمجدد ينهض بنا فى هذا العصر، وقال: "وأنى أضيف بهذا جهادى فى الإصلاح جهاداً جديداً، وابنى به فى هذا الجهاد صرحاً مشيداً".
وقد عاب المؤلف فى مقدمة كتابه على المسلمين تواكلهم وتركيزهم على العبادات والإفراط فيها ونسيانهم الدنيا التى أمروا أن يعمروها ويأخذوا بأسباب الحياة فيها ، وقد صار هذا الفهم الخاطىء للمسلمين فى أمر هذه العبادات، حتى ابتدعوا فى الإسلام رهبانية كما ابتدعها أهل الأديان قبلهم، وبنوا ما يشبه الأديرة والصوامع من الخوانقاه ونحوها ، لينقطع فيها للعبادة من المسلمين من يريد الانقطاع إليها، فيقضوا حياتهم فى الذكر بتكرير النطق بالشهادتين، وفى قيام الليل وصوم النهار، حتى إذا جاء موسم الحج هرعوا إليه كل سنة، وكان هذا هو كل الدين عندهم، فلا شىء فيه من عمل الدنيا، ولا شىء فيه مما ينهض بالمسلمين فى دنياهم من علم أو صناعة أو زراعة أو تجارة، وما إلى هذا مما يحفظ عليهم دنياهم، ولا يجلعهم أقل نجاحاً من غيرهم، حتى لا يطمع فيهم طامع، ولا يستبيح حماهم عدو فيملك ، فيملك عليهم أمرهم، ويضيع عليهم دينهم ودنياهم ...
ويعلق على هذا قائلاً : "ولكن هذا الفهم غير صحيح، لأن الإسلام دين جامع لصلاح الدنيا والأخرة، فلا يقتصر الأمر فيه على ما يصلح الأخرة وحدها، بل يدخل فيه ما يصلح الدنيا أيضاً ... فالإسلام ليس دين عبادة فقط ، وإنما هو نهضة دينية ومدنية معاً، قصد بها النهوض بالعرب الذين اختير الرسول منهم أولاً، لينهضوا بسائر البشر ثانياً .... والاسلام يتسع للتجديد فى كل زمان، لأنه إذا كانت غايته النهوض العام بالإنسانية فوسائل هذا النهوض تسير فى طريق الارتقاء، ولا تقف عند حد محدود لا تتعداه ..على هذا الأساس نبحث تاريخ المجددين فى الإسلام، وندرسه على أنه تاريخ نهوض المسلمين فى أمر دنياهم قبل أن يكون تاريخ نهوضهم فى أمور أخراهم".
كما تناول بالشرح حديث مجددى المائين الذى رواه الإمام أبوداوود فى سننه عن أبى هريرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"، وفصل القول فى سنده ومتنه، وصحته، وفصل القول أيضاً فى الاختلاف فى المجددين هل المجدد إمام واحد أم عدة مجددين فى مجالات مختلفة؟ فإن لفظة "من" التى فى الحديث يطلق على الواحد وغيره، ولا يختص بالفقهاء. فإن انتفاع الأمة يكون أيضاً بأولى الأمروأصحاب الحديث والقراء والوعاظ، ولكن المبعوث ينبغى كونه مشاراً إليه فى كل من هذه الفنون.
ففى رأس المائة الأولى من أولى الأمر عمر بن عبدالعزيز، ومن الفقهاء محمد بن الباقر، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبدالله ، والحسن، وابن سيرين ،وغيرهم من طبقتهم ومن القراء ابن كثير، ومن المحدثين الزهرى، وفى رأس المائة الثانية من أولى الأمر المأمون، ومن الفقهاء اللؤلؤى من أصحاب أبى حنيفة، وأشهب من أصحاب مالك، ومن الإمامية على بن موسى الرضا ، ومنت القراء الحضرمى ، وقد ذكر فى هذا المقام ارجوزة صنعها الإمام السيوطى سماها " تحفة المهتدين بأخبار المجددين" عدّد فيها أسماء المجددين حتى القرن التاسع الهجرى.
وبعد هذه المقدمات المفيدة والغزيرة أرخ عبدالمتعال الصعيدى للمجددين من القرن وحتى القرن الرابع عشر الهجرى استقصى فيه أحوال العالم الإسلامى السياسية والاجتماعية والحضارية والعلمية، بل تعداه إلى الأمم الأخرى، يردف بعدها بتراجم مفصلة لمشاهير القرن المجددين فى أسلوب جذاب، يرجع إلى أمهات المصادر والمراجع ... فعلى سبيل المثال أرخ فى القرن الأول لدولة الإسلام فى عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، وظهور الإسلام ومظاهر الفساد والاستبداد الذى استشرى فى الدولتين العظمتين الروم وفارس مما يوحى بقرب نهايتهما على يد العدل والخير الذى جاء به الإسلام وطبقّه المسلمون على نحو أمثل، واستطرد الرجل فى التأريخ لدولة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيادة العدل، ثم يعرج للحديث عن الدولة الأموية التى قال عنها: "ثم استبد فيهم فيهم بنو مروان ورجعوا بهم إلى أحوال من الجاهلية ، فصاروا إلى الجمود فى الدين والعلم، ولم يظهر بينهم من المجددين إلا عمر بن عبدالعزيز"، كما ترجم بإستفاضة لأعلام القرن من المجددين وهم الخلفاء: أبوبكر، وعمر، وعثمان، وعلى، والحسين بن على، وعمر بن عبدالعزيز ، كما ترجم لخالد بن يزيد.
ثم يختم المؤلف بحثه بالعوائق التى تقف حجر عثرة أمام التجديد فى العصر الحديث ويعزوه إلى تمسك ملوك المسلمين وأمرائهم فى العصر الحديث بحكمهم الاستبدادى، وأن الذين قاموا بالإصلاح فى تلك القرون لم يأتوا به كاملاً ، بل أتو ببعضه، وتركوا بعضه، فكان لما تركوه أثر فى عدم نجاحه، ومنها الجمود الذى تمسك به العلماء فى القرون الأخيرة، فلم ينتبه منه إلى الإصلاح إلا نفر قليل، وبقى جمهور العامة وراء هؤلاء العلماء الجامدين، ولم يتبع المصلحين عدد يمكنه أن ينهض بالإصلاح، ويكون له قوة تضاهى قوة أصحاب الجمود، ومن هذه الأسباب أيضاً دول أوروبا التى كانت تناوىء كل حركة إصلاحية بين المسلمين، وهذه الأسباب فى رأيه كان لها أثرها فى عدم وصولنا إلى التجديد الحديث فى القرون الأخيرة.
ولكن الذى يؤخذ عليه ويصيب الباحث والقارىء بحيرة، جعله لغلام أحمد القادياني ومصطفى كمال باشا (أتاتورك) من المجددين، وهم الذين عادوا الإسلام وأحدثوا الشروخ فى وحدة المسلمين، وبالرغم من توجيه اللوم (على اسحياء ) لهما ، إلا أنه كانت الذلة الوحيدة فى هذا الكتاب الموسوعى الذى لا يستغنى عنه باحث أو قارىء ، ونحتاجه اليوم لتعم الفائدة، ويكتب على غراره فى الفترة التى تحياه مصر من عصرها الزاهر.