بعد تصريحات نتنياهو، فصائل فلسطينية تطالب مصر برعاية اجتماع طارئ لصياغة "إستراتيجية وطنية"    ماذا يحدث في حلب، تسمم العشرات من أفراد "الفرقة 64" بالجيش السوري ونداء عاجل للمستشفيات    تامر عاشور يتألق بحفله في العلمين الجديدة والجمهور يرفض مغادرته المسرح (صور)    أول ظهور للفنانة ليلى علوي بعد تعرضها لحادث سير بالساحل الشمالي (فيديو)    النيابة تصدر قرارًا بحق المتهمين بمطاردة فتيات على طريق الواحات    مالي: اعتقال عسكريين ومدنيين بتهمة التآمر على الحكومة بدعم خارجي    لافروف ودارتشييف يصلان إلى ألاسكا حيث ستعقد القمة الروسية الأمريكية    بدرية طلبة تتصدر تريند جوجل بعد اعتذار علني وتحويلها للتحقيق من قِبل نقابة المهن التمثيلية    نفحات يوم الجمعة.. الأفضل الأدعية المستحبة في يوم الجمعة لمغفرة الذنوب    د.حماد عبدالله يكتب: الضرب فى الميت حرام !!    ما هو حكم سماع سورة الكهف من الهاتف يوم الجمعة.. وهل له نفس أجر قراءتها؟ أمين الفتوى يجيب    حفل موسيقي لسمر طارق ضمن فعاليات مهرجان الصيف الدولي بمكتبة الإسكندرية    مفتي الجمهورية: «إسرائيل الكبرى» أكذوبة وخرافة استعمارية لتبرير التوسع في المنطقة    "يكتب اسمه على القميص".. مايو حكما لمباراة الزمالك والمقاولون في الدوري    نبيل الكوكي: تركنا الاستحواذ لهذا السبب.. وننتظر المزيد من لاعبي المصري    جدو: لدينا أزمة في استغلال الفرص.. والبدايات دائما صعبة    القوى والفصائل الفلسطينية : الأولوية في الوقف الفوري للعدوان الإسرائيلي ورفع الحصار عن قطاع غزة    الأمم المتحدة تدين خطة سموتريتش الاستيطانية    "بوليتيكو": أوروبا تتأرجح بين الأمل والخوف مع لقاء ترامب وبوتين    طريقة عمل سلطة التبولة بمذاق مميز ولا يقاوم    خالد الغندور: تفاصيل اقتراب عودة أحمد فتوح للتدريبات الجماعية بعد مباراة المقاولون    «هتستلمها في 24 ساعة».. أماكن استخراج بطاقة الرقم القومي 2025 من المولات (الشروط والخطوات)    #رابعة يتصدر في يوم الذكرى ال12 .. ومراقبون: مش ناسيين حق الشهداء والمصابين    بحوزتهم أسلحة بيضاء.. أمن القليوبية يضبط طرفي مشاجرة في الخصوص    رسميًا بعد التأجيل.. موعد بدء العام الدراسي الجديد 2025-2026 للمدارس بالجزائر    بالأسماء.. إصابة 12 مصريا وروسي الجنسية في تصادم على طريق الساحل الشمالي بالعلمين    سعر اليورو اليوم الجمعة الموافق 15 أغسطس 2025.. كم سجلت العملة الأوروبية في البنوك؟    لو اتكسر مصباح السيارة هتعمله من غير ما تروح للميكانيكي: دليل خطوة بخطوة    رسميًا بعد قرار البنك الأهلي.. حدود السحب والإيداع اليومي من البنوك وال ATM وإنستاباي    نائب محافظ مطروح يتفقد قافلة «الخير» بقرية أبو زريبة بالسلوم ويعقد حوارًا مجتمعيًا مع الأهالي    من الأطباء النفسيين إلى اليوجا.. ريهام عبد الغفور تكشف ل يارا أحمد رحلة تجاوز الفقد    رسميًا ..مد سن الخدمة بعد المعاش للمعلمين بتعديلات قانون التعليم 2025    رسميًا الآن.. رابط نتيجة تنسيق رياض أطفال 2025 محافظة القاهرة (استعلم)    نجم الأهلي السابق يكشف سر غضب الخطيب.. وهذه رسالتي ل ريبيرو    «اللهم ارزقنا لذة النظر إلى وجهك الكريم».. دعاء يوم الجمعة ردده الآن لطلب الرحمة والمغفرة    بيراميدز يخوض ودية جديدة استعدادا للمواجهات المقبلة في الدوري    هترجع جديدة.. أفضل الحيل ل إزالة بقع الملابس البيضاء والحفاظ عليها    تناولها يوميًا.. 5 أطعمة تمنح قلبك دفعة صحية    بعد موافقة النواب.. الرئيس السيسي يصدق على قانون التصرف في أملاك الدولة    تعرف على عقوبة تداول بيانات شخصية دون موافقة صاحبها    طرائف الدوري المصري.. لاعب بيراميدز يرتدي قميص زميله    ستيفان مبيا: محمد صلاح كان يستحق الفوز بالكرة الذهبية في السنوات الماضية    مكافآت أمريكية ضخمة للقبض على 5 من أخطر تجار المخدرات في المكسيك    ثقافة الفيوم تصنع البهجة في الشواشنة بفعاليات فنية وثقافية متنوعة.. صور    النائبة أمل سلامة: المرأة تعيش عصرها الذهبي.. والتأثير أهم من العدد    بالصور| نهضة العذراء مريم بكنيسة العذراء بالدقي    وزير البترول يكلف عبير الشربيني بمهام المتحدث الرسمي للوزارة    القانون يحدد ضوابط استخدام أجهزة تشفير الاتصالات.. تعرف عليها    ظهرت الآن، نتيجة المرحلة الأولى لرياض الأطفال بمحافظة القاهرة    كانت نازلة تجيب فستان حفل التخرج .. والدة "رنا" تكشف تفاصيل مطاردة "طريق الواحات" المثيرة (فيديو)    "بعد اتهامها بتجارة الأعضاء".. محامي زوجة إبراهيم شيكا يكشف لمصراوي حقيقة منعها من السفر    لأول مرة بمجمع الإسماعيلية الطبي.. إجراء عملية "ويبل" بالمنظار الجراحي لسيدة مسنة    الأوقاف: تجارة الأعضاء جريمة شرعية وأخلاقية.. والتبرع جائز بشروط صارمة    هل دفع مخالفة المرور يسقط الإثم الشرعي؟.. أمين الفتوى يجيب    الإعلام المصرى قوى    شعبة مواد البناء: سعر طن الحديد أعلى من قيمته العادلة في مصر ب16 ألف جنيه    درة تاج الصحافة    الإصدار الثانى عاد ليحكى الحكاية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إضاءات حول الشريعة الإسلامية - صلاح فتحي هَلَل
نشر في المصريون يوم 13 - 09 - 2011

ولما كان الشرع هو المصدر الذي تُسْتَقى منه القواعد والأحكام، والعقلُ له تابعٌ، فالعبرة في التشريع بما وردَ به الشرع، لا ما دلَّتِ العقول على إمكانيته مِن عدمه، وهذا يعرفه كلُّ أحدٍ.
ولم يقل أحدٌ مِن الفقهاء سلفًا وخلفًا إِنَّ العقل مصدر للتشريع، اللهم إلَّا قول المعتزلة بالتحسين والتقبيح العقليين، وهو مأخوذٌ أو مشابه لقول السُّمَنِيَّة الهنود القائم على إنكار النبوات والاتِّكاء على العقل في الوصول إلى الله فيما زعموا، ولا مَدْخل لنا هنا بمنكري النبوات، فهؤلاء لهم حديثٌ آخر، ليس هذا مجاله.
والقاعدة في ذلك: هي أَنَّ «الأصل في العبادات المنع»؛ فَإِنَّ العبادات لَمْ تَكُن ثم كانت، ولا يجوز الزيادة على ما كانت، ومعنى ذلك أنها لم تكن موجودة قبل ورود الإسلام، وإنما شرعها الله عز وجل بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أنه لا تكليف قبل ورود الشرع، فمتى لم يرد الشرع فلا تكليف.
قال النوويُّ: «الأصح أنه لا حكم ولا تكليف قبل ورود الشرع لقوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) [الإسراء: 15]»أه( ).
وهذا هو المنصوص عليه عند إمام الحرمين (الجويني) وغيره( ).
وفي «المستصفى» للغزالي: «الحكم لا يثبت إلا بنصٍّ أو قياسٍ على منصوص»( )، وفيه أيضًا: «ولا تكليف في حقنا إلا بما بلغنا»( ).
قال الإمام العيني: «لأن التكليف عند أهل الحق لا يثبت إلا بالشرع»( ).
وهذا معلومٌ ضرورة مِنْ دين الإسلام؛ لأن الخلق إنما خلقهم الله عز وجل لعبادته، وأرسلَ إليهم رُسُلَه، وأنزل عليهم كُتُبَه، يُعرّفهم الطريق إليه، ويُبَيِّن لهم كيفية عبادته التي يريدها، والتي لا عِلْم لأحدٍ بها إلا عن طريق الرُّسُل، ولهذا لم تقم الحجة على الناس إلا بالرسالات، فلا يجوز لأحدٍ كائنًا مَن كان أن يخرج عن دائرة الرسالة، أو يشرع للناس شيئًا خارجًا عن إطار الشريعة وقواعدها وأصولها الواردة.
وقد ذَكَرَ الله عز وجل هذه القضية في آياتٍ عديدةٍ، منها قوله تبارك وتعالى: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) [النساء: 165]، وقوله سبحانه: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) [الإسراء: 15]. مما يدل على أن مجرد وجود العقل لا يلزم منه قيام الحجة على الناس، بل لا تقوم عليهم الحجة بالرسالة.
ثم جاءت النصوص الصريحة، على اختصاص الله عز وجل بالتشريع، تأكيدًا للقضية السابقة، نحو قوله تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) [الشورى: 21]. فأكَّد سبحانه وتعالى على اختصاصه وأحقِّيته بالتشريع، كما أَكَّد عز وجل على ضرورة إذْنه بالعبادات والتشريعات، ومعرفة إِذْنه بذلك أن يشرعها سبحانه لعباده.
فظهر من هذا أنه لا مجال في العبادة سوى الاستسلام والطاعة، لا الاستحسان والرأي؛ لأنه لا مجال لمعرفة العبادة بالعقل.
قال شيخ الإسلام ابنُ تيمية: «واحتجوا على أن المعرفة لا تحصل بمجرد العقل بقوله تعالى: (وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللهِ) [الأحقاف: 26]، وهذه الآية وأمثالها تدل على أن السمع والأبصار والأفئدة لا تنفع صاحبها مع جَحْدِه بآيات الله، فتَبَيَّنَ أنَّ العقل الذي هو مناط التكليف لا يحصل بمجرده الإيمان النافع والمعرفة المنجية من عذاب الله، وهذا العقل شرط في العلم والتكليف لا موجبٌ له»أه( ).
ولهذا لا تثبت العبادة بغير الشرع، فهي توقيفية، تتوقَّف على ورود النص بها، لا يجوز لأحدٍ التعدِّي على حق الله في التشريع، ولا الافتئات على عباد الله باختراع عبادات أو تشريعات ما أنزلها الله؛ لأن مقصود العبادة إنما هو الاستسلام والطاعة لله، قيامًا بالعبودية، وأداءً لحق شكر نعمته على عباده.
يقول الإمام الكاساني (الحنفي): «إن العبادات وجبت لحق العبودية أو لحق شكر النعمة»أه( ).
وقال الإمام الشاطبي (المالكي): «الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وأصل العادات الالتفات إلى المعاني، أما الأول: فيدل عليه أمور: منها الاستقراء؛ فإِنَّا وجدنا الطهارة تتعدَّى محل موجبها، وكذلك الصلوات خُصَّتْ بأفعال مخصوصة على هيئات مخصوصة إن خرجت عنها لم تكن عبادات..»أه( ).
فلا يجوز التعبُّد بغير ما شَرَعَهُ الله عز وجل، (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) [مريم: 64]، وما شَرَعَهُ لعبادِهِ فهو الحقُّ، وما لم يُشرع لهم التعبُّدُ به فلا يجوز لأحدٍ أن يتعبَّد بما ليس لله فيه رضًى؛ لأنه لم يرض لعباده الافتئات على حقِّه في التشريع؛ بل توعَّد أولئك الذين يُحْدِثون في الدين ما ليس منه، فكيف بمَن يستبدلون الدين كله بتشريعات لم يأذن بها الله عز وجل؟.
وفي الحديثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ قال: خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا» ثُمَّ قَالَ: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) [الأنبياء: 104] إلى آخِرِ الْآيَةِ، ثُمَّ قَالَ: «أَلَا وَإِنَّ أَوَّلَ الْخَلَائِقِ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ، أَلَا وَإِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُصَيْحَابِي؛ فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ( ): (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [المائدة: 117] فَيُقَالُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ»( ). وفي روايةٍ مِن حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكَ لَا عِلْمَ لَكَ بِمَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ إِنَّهُمْ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ الْقَهْقَرَى»( ).
قال النووي رحمه الله في «شرح صحيح مسلم»: «وَقَالَ الْإِمَام الْحَافِظ أَبُو عُمَر بن عَبْد الْبَرِّ( ): كُلُّ مَنْ أَحْدَث فِي الدِّين فَهُوَ مِنْ الْمَطْرُودِينَ عَنِ الْحَوْض كَالْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِض وَسَائِر أَصْحَاب الْأَهْوَاء( ), قَالَ: وَكَذَلِكَ الظَّلَمَة الْمُسْرِفُونَ فِي الْجَوْرِ وَطَمْسِ الْحَقِّ وَالْمُعْلِنُونَ بِالْكَبَائِرِ، قَالَ: وَكُلّ هَؤُلَاءِ يُخَاف عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ عَنُوا بِهَذَا الْخَبَر. واللهُ أَعْلَم» انتهى.
فظهرَ مِن هذا كله أَنَّ التشريع حقٌّ خالصٌ لله عز وجل لا يجوز الافتئات عليه، وأَنَّه لا تكليف قبل ورود الشرع، وأَنَّ الشرع هو الطريق الوحيد لمعرفة التشريعات، ولا مجال للعقل في التشريع، ولا هو من مصادر التشريع التي يُؤْخَذ منها الأحكام، وإنما هو تابعٌ للنصوص الشرعية، يتفكَّر ويتدبَّر فيها، ليخرج للناس بأحكام الشريعة التي دلَّتْ عليها نصوصُها المُنَزَّلَةُ مِن عند الله عز وجل، في كتابه سبحانه، أو في سُنِّةِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم.
والمقصود أَنَّ الوسيلةَ الوحيدة إلى الله عز وجل هي رُسُلُ الله سبحانه ورسالاتُه التي أنزلها لعباده، وكتبُه التي أَمَرَهُم بالأخذ بها، فلا يسع أحدًا الخروج عنها.
ولهذا قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران: 31] ، وقال: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) [النساء: 80].
قال الأزهر الشَّريف في «بيانه للناس»: «لا شك أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيلتنا إلى الله، مِنْ حَيْثُ إِنَّه مُعَلِّمٌ ومُرْشِدٌ، فطاعتُه وحبُّه أساسُ حُبِّ اللهِ لِلْعَبْدِ»اه( ).
وقد حصر الإسلامُ الوسيلةَ إلى الله عز وجل ومعرفةَ دينِه وشرعه في الرُّسُلِِ حصرًا، فلا بديل عن رُسُل الله -عليهم السلام- في بيان مُرادِ الله وشرعه؛ ولهذا فرضَ الله عز وجل على الناس طاعتهم، والعمل بمقتضى أوامرِهم، وحرَّمَ مخالفتَهم وعصيانَهم.
فظهرَ مِن هذا وغيره أنَّ الطريق إلى معرفة الأحكام الشرعية إنما هو الشرع لا العقل، وأن التشريع حقٌّ خالصٌ لله عز وجل لا يجوز منازعته فيه.
فإن قيل: فكيف يعرف الناسُ حكمَ الأمورِ التي تحدث لهم، والتي لم يأتِ بها النص الصريح، ككثيرٍ من الأحكامِ المُزَامِنَة (العصريَّة).
فالجواب: أن الله عز وجل قد وضع لعباده دلالة على كل ما يستجد من الأمور، في كل العصور، وما من شيءٍ إلا وقد وضع الله له دلالة في دينه، إما بالنص الصريح أو دخوله ضمن قاعدة شرعية عامة وشاملة، أو بالقياس على مِثْلِه.
وقد سبق عن «المستصفى» للغزالي: «الحكم لا يثبت إلا بنص أو قياس على منصوص».
وقال الشاطبي: «الأدلة الشرعية ضربان: أحدهما: ما يرجع إلى النقل المحض. والثاني: ما يرجع إلى الرأي المحض، وهذه القسمة هي بالنسبة إلى أصول الأدلة، وإلا فكل واحد من الضربين مفتقرٌ إلى الآخر؛ لأن الاستدلال بالمنقولات لا بد فيه من النظر، كما أن الرأي لا يعتبر شرعًا إلا إذا استند إلى النقل، فأما الضرب الأول: فالكتاب والسنة، وأما الثاني: فالقياس والاستدلال، ويلحق بكل واحد منهما وجوه..»( ). وقال أيضًا: «فليس القياس من تصرفات العقول محضًا، وإنما تصرَّفَتْ فيه من تحت نظر الأدلة، وعلى حسب ما أعطته من إطلاقٍ أو تقييدٍ، وهذا مُبَيَّنٌ في موضعه من كتاب القياس، فإِنَّا إذا دَلَّنا الشرعُ على أن إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه مُعْتَبَرٌ، وأنه من الأمور التي قصدها الشارع وأمرَ بها ونَبَّه النبي صلى الله عليه وسلم على العمل بها، فأين استقلال العقل بذلك؟ بل هو مُهْتَدٍ فيه بالأدلة الشرعية يجري بمقدار ما أَجْرَتْهُ ويقف حيث وقفته»( ).
فظهر من هذا أن الأصل في العبادات الشرعية الحظر والمنع؛ لافتقارها إلى الشرع الذي لا يكون إلا من الله على لسان نبيِّه صلى الله عليه وسلم، بخلاف العادات والأشياء فالأصل فيها الإباحة حتى يأتي الشرع بحظرها أو منعها.
قال ابن تيمية: «تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينُهم، وعادات يحتاجون إليها في دنياهم، فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع، و أما العادات: فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه، والأصل فيه عدم الحظر، فلا يحظر منه إلا ما حظره الله عز وجل؛ و ذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله، والعبادة لابد أن تكون مأمورًا بها، فما لم يثبت أنه مأمورٌ به =كيف يُحكم عليه بأنه عبادة؟ و ما لم يثبت من العبادات أنه مَنْهِيٌّ عنه =كيف يُحكم عليه أنه محظور؟ ولهذا كان أحمد( ) وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: إن الأصل في العبادات التوقيف، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى، وإلا دخلنا في معنى قوله: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) [الشورى: 21].
والعادات: الأصل فيها العفو، فلا يحظر منها إلا ما حَرَّمَهُ الله، وإلا دخلنا في معنى قوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا) [يونس: 59]، ولهذا ذم الله المشركين الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله وحرموا ما لم يحرمه في سورة الأنعام من قوله تعالى: (وَجَعَلُوا للهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا للهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَمَا كَانَ للهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ. وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) [الأنعام: 136 – 137]، فَذَكَرَ ما ابتدعوه مِن العبادات ومن التحريمات.
وفي صحيح مسلم عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ رضي الله عنه، عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: قال الله تعالى: (إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ، فَاجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا)( ).
وهذه قاعدة عظيمة نافعة»أه( ).
ولهذا كانت العبادة الخارجة عن مطلق التشريع الوارد في الشرع باطلة، لا تصح؛ لأنه لابُدَّ لأيِّ عملٍ مِن داعٍٍ وباعث يحمل عليه، فإِنْ لم يكن داعية العمل هو الشرع؛ لم يكن له داعية سوى الهوى؛ لأنه هو المذكور في الشريعة في مقابلة اتِّباع النصوص الشرعية، فإما الشرع وإما الهوى، نحو قوله عز وجل: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ) [القصص: 50]. وقوله تعالى: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا) [الفرقان: 43].
وقال الشاطبي: «كلُّ عملٍ كان المُتَّبَع فيه الهوى بإطلاقٍ مِن غير التفاتٍ إلى الأمر أو النهي أو التخيير =فهو باطلٌ بإطلاقٍ؛ لأنه لابدَّ للعمل مِن حاملٍٍ يحمل عليه وداعٍ يدعو إليه، فإذا لم يكن لتلبية الشارع في ذلك مدخل فليس إلا مقتضى الهوى والشهوة، وما كان كذلك فهو باطل بإطلاق؛ لأنه خلاف الحق بإطلاق، فهذا العمل باطل بإطلاق بمقتضى الدلائل المتقدمة..»، قال الشاطبي: «فأَمَّا العبادات فكونُها باطلةً ظاهرٌ، وأما العادات فذلك من حيث عدمُ ترتُّبِ الثوابِ على مقتضى الأمر والنهي، فوجودها في ذلك وعدمها سواء، وكذلك الإذن في عدم أخذ المأذون فيه من جهة المُنْعِم به كما تقدم في كتاب الأحكام وفي هذا الكتاب. وكل فعل كان المُتَّبَع فيه بإطلاقٍ الأمْرَ أو النهي أو التخييرَ =فهو صحيحٌ وحقٌّ»أه( ).
فالشرع ما شرعه الله في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وما سوى ذلك فهوًى مُتَّبَع، وباطلٌ لا ثواب عليه؛ إِذِ الثواب على الشرع، فما لم يكن شرعًا فلا ثواب فيه، بل هو باطلٌ مردودٌ على صاحبه.
ولهذا قالت «دار الإفتاء المصرية» حينما سُئِلَتْ عن «الذِّكْرِ الملحون»: «اتفقَ جميعُ أهلِ العلم سلفًا وخلفًا على أَنَّ الذِّكْرَ الملحون ليس ذِكْرًا شرعيًّا فلا ثواب فيه»( ).
ويدل على هذا: قوله صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرُ الهَدْي هَدْي مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضلالة»( ).
وقوله صلى الله عليه وسلم: «وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»( ).
وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ»( )، وفي رواية: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»( ).
فإذا كان هذا فيمن أَحْدَثَ في الدِّين فكيف بمَن تركه كله واستبدله بتشريعٍ لم يأذن به الله عز وجل؟.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.