«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إضاءات حول الشريعة الإسلامية - صلاح فتحي هَلَل
نشر في المصريون يوم 13 - 09 - 2011

ولما كان الشرع هو المصدر الذي تُسْتَقى منه القواعد والأحكام، والعقلُ له تابعٌ، فالعبرة في التشريع بما وردَ به الشرع، لا ما دلَّتِ العقول على إمكانيته مِن عدمه، وهذا يعرفه كلُّ أحدٍ.
ولم يقل أحدٌ مِن الفقهاء سلفًا وخلفًا إِنَّ العقل مصدر للتشريع، اللهم إلَّا قول المعتزلة بالتحسين والتقبيح العقليين، وهو مأخوذٌ أو مشابه لقول السُّمَنِيَّة الهنود القائم على إنكار النبوات والاتِّكاء على العقل في الوصول إلى الله فيما زعموا، ولا مَدْخل لنا هنا بمنكري النبوات، فهؤلاء لهم حديثٌ آخر، ليس هذا مجاله.
والقاعدة في ذلك: هي أَنَّ «الأصل في العبادات المنع»؛ فَإِنَّ العبادات لَمْ تَكُن ثم كانت، ولا يجوز الزيادة على ما كانت، ومعنى ذلك أنها لم تكن موجودة قبل ورود الإسلام، وإنما شرعها الله عز وجل بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أنه لا تكليف قبل ورود الشرع، فمتى لم يرد الشرع فلا تكليف.
قال النوويُّ: «الأصح أنه لا حكم ولا تكليف قبل ورود الشرع لقوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) [الإسراء: 15]»أه( ).
وهذا هو المنصوص عليه عند إمام الحرمين (الجويني) وغيره( ).
وفي «المستصفى» للغزالي: «الحكم لا يثبت إلا بنصٍّ أو قياسٍ على منصوص»( )، وفيه أيضًا: «ولا تكليف في حقنا إلا بما بلغنا»( ).
قال الإمام العيني: «لأن التكليف عند أهل الحق لا يثبت إلا بالشرع»( ).
وهذا معلومٌ ضرورة مِنْ دين الإسلام؛ لأن الخلق إنما خلقهم الله عز وجل لعبادته، وأرسلَ إليهم رُسُلَه، وأنزل عليهم كُتُبَه، يُعرّفهم الطريق إليه، ويُبَيِّن لهم كيفية عبادته التي يريدها، والتي لا عِلْم لأحدٍ بها إلا عن طريق الرُّسُل، ولهذا لم تقم الحجة على الناس إلا بالرسالات، فلا يجوز لأحدٍ كائنًا مَن كان أن يخرج عن دائرة الرسالة، أو يشرع للناس شيئًا خارجًا عن إطار الشريعة وقواعدها وأصولها الواردة.
وقد ذَكَرَ الله عز وجل هذه القضية في آياتٍ عديدةٍ، منها قوله تبارك وتعالى: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) [النساء: 165]، وقوله سبحانه: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) [الإسراء: 15]. مما يدل على أن مجرد وجود العقل لا يلزم منه قيام الحجة على الناس، بل لا تقوم عليهم الحجة بالرسالة.
ثم جاءت النصوص الصريحة، على اختصاص الله عز وجل بالتشريع، تأكيدًا للقضية السابقة، نحو قوله تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) [الشورى: 21]. فأكَّد سبحانه وتعالى على اختصاصه وأحقِّيته بالتشريع، كما أَكَّد عز وجل على ضرورة إذْنه بالعبادات والتشريعات، ومعرفة إِذْنه بذلك أن يشرعها سبحانه لعباده.
فظهر من هذا أنه لا مجال في العبادة سوى الاستسلام والطاعة، لا الاستحسان والرأي؛ لأنه لا مجال لمعرفة العبادة بالعقل.
قال شيخ الإسلام ابنُ تيمية: «واحتجوا على أن المعرفة لا تحصل بمجرد العقل بقوله تعالى: (وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللهِ) [الأحقاف: 26]، وهذه الآية وأمثالها تدل على أن السمع والأبصار والأفئدة لا تنفع صاحبها مع جَحْدِه بآيات الله، فتَبَيَّنَ أنَّ العقل الذي هو مناط التكليف لا يحصل بمجرده الإيمان النافع والمعرفة المنجية من عذاب الله، وهذا العقل شرط في العلم والتكليف لا موجبٌ له»أه( ).
ولهذا لا تثبت العبادة بغير الشرع، فهي توقيفية، تتوقَّف على ورود النص بها، لا يجوز لأحدٍ التعدِّي على حق الله في التشريع، ولا الافتئات على عباد الله باختراع عبادات أو تشريعات ما أنزلها الله؛ لأن مقصود العبادة إنما هو الاستسلام والطاعة لله، قيامًا بالعبودية، وأداءً لحق شكر نعمته على عباده.
يقول الإمام الكاساني (الحنفي): «إن العبادات وجبت لحق العبودية أو لحق شكر النعمة»أه( ).
وقال الإمام الشاطبي (المالكي): «الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وأصل العادات الالتفات إلى المعاني، أما الأول: فيدل عليه أمور: منها الاستقراء؛ فإِنَّا وجدنا الطهارة تتعدَّى محل موجبها، وكذلك الصلوات خُصَّتْ بأفعال مخصوصة على هيئات مخصوصة إن خرجت عنها لم تكن عبادات..»أه( ).
فلا يجوز التعبُّد بغير ما شَرَعَهُ الله عز وجل، (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) [مريم: 64]، وما شَرَعَهُ لعبادِهِ فهو الحقُّ، وما لم يُشرع لهم التعبُّدُ به فلا يجوز لأحدٍ أن يتعبَّد بما ليس لله فيه رضًى؛ لأنه لم يرض لعباده الافتئات على حقِّه في التشريع؛ بل توعَّد أولئك الذين يُحْدِثون في الدين ما ليس منه، فكيف بمَن يستبدلون الدين كله بتشريعات لم يأذن بها الله عز وجل؟.
وفي الحديثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ قال: خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا» ثُمَّ قَالَ: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) [الأنبياء: 104] إلى آخِرِ الْآيَةِ، ثُمَّ قَالَ: «أَلَا وَإِنَّ أَوَّلَ الْخَلَائِقِ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ، أَلَا وَإِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُصَيْحَابِي؛ فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ( ): (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [المائدة: 117] فَيُقَالُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ»( ). وفي روايةٍ مِن حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكَ لَا عِلْمَ لَكَ بِمَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ إِنَّهُمْ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ الْقَهْقَرَى»( ).
قال النووي رحمه الله في «شرح صحيح مسلم»: «وَقَالَ الْإِمَام الْحَافِظ أَبُو عُمَر بن عَبْد الْبَرِّ( ): كُلُّ مَنْ أَحْدَث فِي الدِّين فَهُوَ مِنْ الْمَطْرُودِينَ عَنِ الْحَوْض كَالْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِض وَسَائِر أَصْحَاب الْأَهْوَاء( ), قَالَ: وَكَذَلِكَ الظَّلَمَة الْمُسْرِفُونَ فِي الْجَوْرِ وَطَمْسِ الْحَقِّ وَالْمُعْلِنُونَ بِالْكَبَائِرِ، قَالَ: وَكُلّ هَؤُلَاءِ يُخَاف عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ عَنُوا بِهَذَا الْخَبَر. واللهُ أَعْلَم» انتهى.
فظهرَ مِن هذا كله أَنَّ التشريع حقٌّ خالصٌ لله عز وجل لا يجوز الافتئات عليه، وأَنَّه لا تكليف قبل ورود الشرع، وأَنَّ الشرع هو الطريق الوحيد لمعرفة التشريعات، ولا مجال للعقل في التشريع، ولا هو من مصادر التشريع التي يُؤْخَذ منها الأحكام، وإنما هو تابعٌ للنصوص الشرعية، يتفكَّر ويتدبَّر فيها، ليخرج للناس بأحكام الشريعة التي دلَّتْ عليها نصوصُها المُنَزَّلَةُ مِن عند الله عز وجل، في كتابه سبحانه، أو في سُنِّةِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم.
والمقصود أَنَّ الوسيلةَ الوحيدة إلى الله عز وجل هي رُسُلُ الله سبحانه ورسالاتُه التي أنزلها لعباده، وكتبُه التي أَمَرَهُم بالأخذ بها، فلا يسع أحدًا الخروج عنها.
ولهذا قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران: 31] ، وقال: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) [النساء: 80].
قال الأزهر الشَّريف في «بيانه للناس»: «لا شك أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيلتنا إلى الله، مِنْ حَيْثُ إِنَّه مُعَلِّمٌ ومُرْشِدٌ، فطاعتُه وحبُّه أساسُ حُبِّ اللهِ لِلْعَبْدِ»اه( ).
وقد حصر الإسلامُ الوسيلةَ إلى الله عز وجل ومعرفةَ دينِه وشرعه في الرُّسُلِِ حصرًا، فلا بديل عن رُسُل الله -عليهم السلام- في بيان مُرادِ الله وشرعه؛ ولهذا فرضَ الله عز وجل على الناس طاعتهم، والعمل بمقتضى أوامرِهم، وحرَّمَ مخالفتَهم وعصيانَهم.
فظهرَ مِن هذا وغيره أنَّ الطريق إلى معرفة الأحكام الشرعية إنما هو الشرع لا العقل، وأن التشريع حقٌّ خالصٌ لله عز وجل لا يجوز منازعته فيه.
فإن قيل: فكيف يعرف الناسُ حكمَ الأمورِ التي تحدث لهم، والتي لم يأتِ بها النص الصريح، ككثيرٍ من الأحكامِ المُزَامِنَة (العصريَّة).
فالجواب: أن الله عز وجل قد وضع لعباده دلالة على كل ما يستجد من الأمور، في كل العصور، وما من شيءٍ إلا وقد وضع الله له دلالة في دينه، إما بالنص الصريح أو دخوله ضمن قاعدة شرعية عامة وشاملة، أو بالقياس على مِثْلِه.
وقد سبق عن «المستصفى» للغزالي: «الحكم لا يثبت إلا بنص أو قياس على منصوص».
وقال الشاطبي: «الأدلة الشرعية ضربان: أحدهما: ما يرجع إلى النقل المحض. والثاني: ما يرجع إلى الرأي المحض، وهذه القسمة هي بالنسبة إلى أصول الأدلة، وإلا فكل واحد من الضربين مفتقرٌ إلى الآخر؛ لأن الاستدلال بالمنقولات لا بد فيه من النظر، كما أن الرأي لا يعتبر شرعًا إلا إذا استند إلى النقل، فأما الضرب الأول: فالكتاب والسنة، وأما الثاني: فالقياس والاستدلال، ويلحق بكل واحد منهما وجوه..»( ). وقال أيضًا: «فليس القياس من تصرفات العقول محضًا، وإنما تصرَّفَتْ فيه من تحت نظر الأدلة، وعلى حسب ما أعطته من إطلاقٍ أو تقييدٍ، وهذا مُبَيَّنٌ في موضعه من كتاب القياس، فإِنَّا إذا دَلَّنا الشرعُ على أن إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه مُعْتَبَرٌ، وأنه من الأمور التي قصدها الشارع وأمرَ بها ونَبَّه النبي صلى الله عليه وسلم على العمل بها، فأين استقلال العقل بذلك؟ بل هو مُهْتَدٍ فيه بالأدلة الشرعية يجري بمقدار ما أَجْرَتْهُ ويقف حيث وقفته»( ).
فظهر من هذا أن الأصل في العبادات الشرعية الحظر والمنع؛ لافتقارها إلى الشرع الذي لا يكون إلا من الله على لسان نبيِّه صلى الله عليه وسلم، بخلاف العادات والأشياء فالأصل فيها الإباحة حتى يأتي الشرع بحظرها أو منعها.
قال ابن تيمية: «تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينُهم، وعادات يحتاجون إليها في دنياهم، فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع، و أما العادات: فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه، والأصل فيه عدم الحظر، فلا يحظر منه إلا ما حظره الله عز وجل؛ و ذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله، والعبادة لابد أن تكون مأمورًا بها، فما لم يثبت أنه مأمورٌ به =كيف يُحكم عليه بأنه عبادة؟ و ما لم يثبت من العبادات أنه مَنْهِيٌّ عنه =كيف يُحكم عليه أنه محظور؟ ولهذا كان أحمد( ) وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: إن الأصل في العبادات التوقيف، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى، وإلا دخلنا في معنى قوله: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) [الشورى: 21].
والعادات: الأصل فيها العفو، فلا يحظر منها إلا ما حَرَّمَهُ الله، وإلا دخلنا في معنى قوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا) [يونس: 59]، ولهذا ذم الله المشركين الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله وحرموا ما لم يحرمه في سورة الأنعام من قوله تعالى: (وَجَعَلُوا للهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا للهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَمَا كَانَ للهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ. وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) [الأنعام: 136 – 137]، فَذَكَرَ ما ابتدعوه مِن العبادات ومن التحريمات.
وفي صحيح مسلم عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ رضي الله عنه، عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: قال الله تعالى: (إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ، فَاجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا)( ).
وهذه قاعدة عظيمة نافعة»أه( ).
ولهذا كانت العبادة الخارجة عن مطلق التشريع الوارد في الشرع باطلة، لا تصح؛ لأنه لابُدَّ لأيِّ عملٍ مِن داعٍٍ وباعث يحمل عليه، فإِنْ لم يكن داعية العمل هو الشرع؛ لم يكن له داعية سوى الهوى؛ لأنه هو المذكور في الشريعة في مقابلة اتِّباع النصوص الشرعية، فإما الشرع وإما الهوى، نحو قوله عز وجل: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ) [القصص: 50]. وقوله تعالى: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا) [الفرقان: 43].
وقال الشاطبي: «كلُّ عملٍ كان المُتَّبَع فيه الهوى بإطلاقٍ مِن غير التفاتٍ إلى الأمر أو النهي أو التخيير =فهو باطلٌ بإطلاقٍ؛ لأنه لابدَّ للعمل مِن حاملٍٍ يحمل عليه وداعٍ يدعو إليه، فإذا لم يكن لتلبية الشارع في ذلك مدخل فليس إلا مقتضى الهوى والشهوة، وما كان كذلك فهو باطل بإطلاق؛ لأنه خلاف الحق بإطلاق، فهذا العمل باطل بإطلاق بمقتضى الدلائل المتقدمة..»، قال الشاطبي: «فأَمَّا العبادات فكونُها باطلةً ظاهرٌ، وأما العادات فذلك من حيث عدمُ ترتُّبِ الثوابِ على مقتضى الأمر والنهي، فوجودها في ذلك وعدمها سواء، وكذلك الإذن في عدم أخذ المأذون فيه من جهة المُنْعِم به كما تقدم في كتاب الأحكام وفي هذا الكتاب. وكل فعل كان المُتَّبَع فيه بإطلاقٍ الأمْرَ أو النهي أو التخييرَ =فهو صحيحٌ وحقٌّ»أه( ).
فالشرع ما شرعه الله في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وما سوى ذلك فهوًى مُتَّبَع، وباطلٌ لا ثواب عليه؛ إِذِ الثواب على الشرع، فما لم يكن شرعًا فلا ثواب فيه، بل هو باطلٌ مردودٌ على صاحبه.
ولهذا قالت «دار الإفتاء المصرية» حينما سُئِلَتْ عن «الذِّكْرِ الملحون»: «اتفقَ جميعُ أهلِ العلم سلفًا وخلفًا على أَنَّ الذِّكْرَ الملحون ليس ذِكْرًا شرعيًّا فلا ثواب فيه»( ).
ويدل على هذا: قوله صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرُ الهَدْي هَدْي مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضلالة»( ).
وقوله صلى الله عليه وسلم: «وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»( ).
وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ»( )، وفي رواية: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»( ).
فإذا كان هذا فيمن أَحْدَثَ في الدِّين فكيف بمَن تركه كله واستبدله بتشريعٍ لم يأذن به الله عز وجل؟.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.