بالتأكيد اتخذت تركيا القرار الصحيح حين قررت طرد السفير الاسرائيلي من انقرة، وتخفيض التمثيل الدبلوماسي وتجميد التعاون العسكري مع اسرائيل احتجاجا على المجزرة التي ارتكبتها في هجومها على سفن قافلة الحرية، واستنكارا لتقرير الاممالمتحدة حول الهجوم والذي وصف الحصار على غزة بانه شرعي لم تعبأ تركيا بكونها عضوا مهما في حلف الناتو وتربطها علاقات استراتيجية مع امريكا وتسعي بكل امكاناتها لدخول الاتحاد الاوروبي وتربطها علاقات تاريخية مع اسرائيل، فالدفاع عن الكرامة الوطنية وحقوق الامة التركية أولوية قصوي للحكومة التركية بحكم كونها حكومة منتخبة ديمقراطيا وتعبر عن مصالح الامة التركية. صحيح ان القرار التركي جاء بعد معركة دبلوماسية استغرقت 15 شهرا ، وصحيح انه لم يتضمن قطع العلاقات بالكامل واغلاق السفارة الاسرائيلية ، لكنه كان الرد الوحيد والصحيح على اصرار اسرائيل على رفض الاعتذار و التحقيق في الهجوم على اسطول الحرية الذي تسبب في مقتل تسعة مواطنين اتراك ودفع تعويضات لاسر الضحايا. لم ترضخ تركيا لضغوط اسرائيل التي شملت تحريض دول الجوار ودعم الانفصاليين الاكراد وتهديد الامن الداخلي وتأليب الكونغرس الامريكي باثارة قضية الاضطهاد التركي المزعوم للارمن في الحرب العالمية الاولي، بل علي العكس قررت المضي قدما في تقليص علاقاتها مع اسرائيل من التحالف الاستراتيجي والمناورات المشتركة الى مستوي متدن من التمثيل الدبلوماسي اكثر من سنة مضت على الهجوم الذي قامت به وحدة كوماندوز بحرية اسرائيلية على سفن قافلة الحرية التي حاولت كسر الحصار المفروض على غزة ، واسرائيل ترفض بكل غطرسة التجاوب مع طلب تركيا بالاعتذار ، وتتمسك بموقفها الذي يعبر عن الأسف، وتؤكد قبولها لمبدأ التعويض بشرط امتناع تركيا عن اي ملاحقة قانونية! اسرائيل تعاملت مع المطالب التركية بكل غطرسة، فهي تؤمن بانها قوة كبري لا يمكن المساس بها، في ظل الحماية الامريكية والاوروبية والحصانة من اي عقوبات دولية، ولعل هذا ما يجعلها تتعامل مع كل جيرانها بنفس الغطرسة ، خاصة وانهم خائفون من الدخول معها في اي مواجهة سياسية او دبلوماسية او عسكرية! ومع صدور تقرير الاممالمتحدة حول الهجوم على سفن قافلة الحرية كان من الطبيعي ان تشعر اسرائيل بمزيد من الغطرسة، فالتقرير انحاز لها بالكامل واعتبر الهجوم على قافلة الحرية بانه كان مبررا، ووصف الحصار المفروض على قطاع غزة بالشرعي ، ورفض المطالب التركية بالاعتذار اكتفاء بان تعرب اسرائيل عن اسفها لمقتل الضحايا الاتراك! ولعل هذا ما اثار غضب تركيا التي قررت رفع دعوي امام محكمة العدل الدولية لاثبات عدم شرعية الحصار المفروض على قطاع غزة، كما هددت باتخاذ مزيد من الاجراءات تجاه اسرائيل في اشارة الى قطع العلاقات التجارية التي يقدر حجمها بنحو 3,5 مليار دولار، بكل ما يمكن ان يترتب على ذلك من خسائر للبلدين! بصراحة هذه أول مرة تتجرأ فيها دولة شرق اوسطية على مواجهة اسرائيل، فلم يسبق ان اتخذت دولة اخري -على الاقل خلال الثلاثين عاما الماضية – موقفا مشابها، ولو قارنا الموقف التركي بمواقف عربية عديدة لكانت النتيجة لصالح تركيا، فقد اختارت الاخيرة الدفاع عن كرامتها وحقوقها الوطنية دون اي حساب لعلاقتها بامريكا واسرائيل وعضويتها في حلف الناتو. لم يكن ممكنا لتركيا ان تتخذ هذا الموقف الشجاع، مالم تكن محكومة بنظام ديمقراطي يستند الى دعم شعبي، ومالم تكن قوة اقتصادية وعسكرية وسياسية يحسب لها الف حساب، ومالم يكن قادتها قد جاءوا الى الحكم في انتخابات حرة ونزيهة، ولم يقفزوا على السلطة في انتخابات مزورة او بانقلابات بيضاء أو حمراء، ولعل هذا ما جعلهم يدافعون بهذه الطريقة عن حقوق بلادهم دون مهادنة او مناورة او حسابات سياسية! القرار التركي بطرد سفير اسرائيل وتجميد التعاون العسكري معها سوف يدفع العلاقات التركية الاسرائيلية لمزيد من التدهور، وربما يؤثر على العلاقات التركية الامريكية، لكن هذا القرار سوف يحظي بتأييد واحترام الاتراك من اقصى اليمين الى اقصى اليسار، وسوف يحشد كل الاتراك وراء اي موقف آخر تتخذه حكومتهم دفاعا عن الكرامة الوطنية! القرار التركي درس واضح مفاده ان الدفاع عن الكرامة والسيادة والحقوق الوطنية أهم من اي علاقة مع امريكا او اسرائيل، وان تركيا اصبحت قوة اقليمية كبري، يجب ان يمد لها العرب يد الصداقة والتعاون!