منذ أحداث 30 يونيو والإطاحة بالرئيس الأسبق محمد مرسي واستقالته السريعة ، لم يتحدث البرادعي لأي وسيلة إعلامية داخل مصر أو خارجها ، وبقي أمره غامضا ، ورؤيته للأحداث غامضة ، فقط قبل يومين تحدث البرادعي باستفاضة لصحيفة نمساوية ، ونقلت المصريون النص الكامل للحوار مترجما ، كما نقلته صحف أخرى ومواقع عديدة ، والحقيقة أن ما قاله البرادعي مهم جدا ، وبعض ما ذكره من معلومات يمكن وصفه بالخطير ، وقد بدأ البرادعي حديثه بتوجيه النصيحة للرئيس عبد الفتاح السيسي ، نظرا لموجة العنف التي تطل برأسها الآن في مصر بعد الصدام مع الإسلاميين وأنصار مرسي ، فقال البرادعي موجها حديثه للسيسي : "من يريد الاعتدال عليه تضمين الإسلام السياسي، ومن يدفع بهؤلاء تحت الأرض، يحصد العنف والتطرف وأحد الدروس المستفادة من الربيع العربي هو أننا بحاجة للوحدة الوطنية وعملية سياسية تشمل الجميع " ، وأعاد البرادعي التذكير بالحقيقة البديهية التي لا يريد البعض تصديقها قائلا : "مصر لا يمكنها تحمل ترف تأجيل المنافسة السياسية ، فنحن بحاجة لتعددية سياسية، مثلما حدث في تونس، فالإسلاميون هناك في البرلمان وهذا هو السبيل الوحيد، ولا يمكننا الاستمرار في تشويه صورتهم كما يحدث في مصر حاليًا" ، وهذا يعني أن البرادعي يرى بوضوح أن اللعبة السياسية بدون وجود الإسلاميين هي مضيعة للوقت ، وترف لا تحتمله البلاد . ثم أوضح في رسالة لها معنى أن سيطرة جهة بعينها على السلطة الآن في مصر لا يعني أن الرحلة انتهت ، وأن فصول التجربة ما زالت مستمرة ، فعن إقصاء الإخوان بمصر وتولي الجيش السلطة ، حسب سؤال الصحيفة، قال البرادعي إن "تلك ليست نهاية القصة، لقد استغرقت الحروب الدموية في أوروبا ثلاثة أعوام لتسوية صراعاتها الداخلية والعرقية والدينية وتمهيد الطريق للديمقراطية، وبعض التغييرات الاجتماعية لا تحدث في خط مستقيم بل بحركة دائرية" ، وهو ما يعني إشارته إلى أن المواجهات والعنف والقسوة والدم الذي نشهده في مصر سوف ننتهي بعدها إلى التسليم والاعتراف بضرورة الديمقراطية الحقيقية ، وعلينا أن نتعلم من تجارب الآخرين حتى لا ندفع ثمنا اعتباطيا بلا أي مردود ، وسنعود بعد دفعه للنقطة الأولى ، ونفى البرادعي إمكانية عودة النظام القديم قائلا : العودة الكاملة للنظام القديم مستحيلة لأن ثقافة الخوف قد ولت بلا رجعة . في حواره دخل البرادعي في المنطقة الملغمة ، منطقة عملية إطاحة مرسي ومشاركته في ذلك فنفى أن يكون المشروع كان إطاحة مرسي أو الانقلاب عليه وأوضح : "دعمت إقامة انتخابات رئاسية مبكرة بالتنسيق مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وقطر والإمارات، ومرسي لم يكن يرغب في ذلك" ، وأضاف : مرسي ارتكب خطأ عندما لم يقبل عقد انتخابات مبكرة، فقد كانت الفكرة حينئذ هي أن يذهب مرسي وأن يظل الإخوان المسلمون مشاركين، وبعد أسبوع من 3 من يوليو 2013، تم دعوة الإخوان المسلمين للقاء لمناقشة المصالحة لكنهم لم يوافقوا لأن مرسي كان قد ألقي القبض عليه فعليا " ، وعن تفسير مشاركته في هذا السيناريو الذي انتهى لتصفيات دموية : "أردت أن تتجنب البلاد حربا أهلية، فمصر كانت في حالة انقسام كامل وقتها، وكان الملايين في الشوارع وكان ينبغي تهدئة الموقف من خلال انتخابات سياسية، ولكن الجيش تلاعب بالموقف وقام بإطلاق الرصاص على اعتصامات الإخوان المسلمين على الرغم من أنه كانت هناك نوايا طيبة لإنهاء الصراع بشكل سلمي ، ويبدو أن حديثه عن "التلاعب" دفع الصحيفة إلى سؤاله السؤال المحرج حول إمكانية أن يكون البعض استخدمه "ستارا " فأجاب البرادعي بكل شجاعة وحسم : نعم ، لكنه استدرك موضحا مبرراته الشخصية للمشاركة قائلا : كان ينبغي أن يدركوا أنني أصبحت نائبا للرئيس فقط لمنع حدوث مواجهات دامية في 3 من يوليو 2013، وأعلنتها واضحة منذ أول يوم لي إنني ضد العنف بكل أشكاله"، وأعاد التأكيد على ما أكده آخرون بمن فيهم القيادي الإخواني الدكتور عمرو دراج بأن السيسي كان يرغب في حل سياسي ، وأضاف : كنت على اتصال دائم مع السيسي ومع وزير الخارجية الأمريكي جون كيري ومع ممثلة الاتحاد الأوروبي كاثرين أشتون وكان السيسي يرغب في حل سياسي للموقف ولكن ماذا حدث لاحقا؟ لا أعرف" ، وهذه إشارة لإمكانية أن يكون السيسي قد تعرض لضغوط من أجل رفض الحل السياسي والاندفاع في الحسم الدموي على النحو الذي شاهده العالم في رابعة وغيرها . البرادعي في حواره تحدث عن الخطأ الافتتاحي الذي وقعت فيه قوى الثورة بعد نجاحها في إسقاط مبارك ونطامخه ، وهو الخطأ الذي ترتب عليه سوء إدارة المرحلة كلها ، وهو الشروع في الانتخابات البرلمانية ثم الرئاسية قبل أن يكون لدينا دستور ، وقال : العملية بجميع أركانها كانت خاطئة، فطالما أنه لا يوجد اتفاق على قيم أساسية، لن يكون هناك استقرار اجتماعي، الانتخابات دون دستور ودون توافق في الآراء على قيم أساسية أدت لكارثة" ، وهذا الكلام ثبت أنه صحيح بالفعل ، ورغم أن موقفي الشخصي وموقف صحيفة المصريون وقت معركة الانتخابات أولا أم الدستور أولا ، انحازت إلى الخيار الأول ، إلا أن التجربة أثبتت أن إنجاز الدستور أولا كان هو الخطوة الصحيحة والضرورية قبل أي خطوة لاحقة . البرادعي ختم حواره بالإشادة بالتجربة التونسية ، والتي رآها ملهمة لغيرها ، وهي الحل لمصر أيضا إذا أردنا تصحيح المسار ، ففي معرض إجابته عن إمكانية وجود فرصة أخرى لمصر، قال : إنه في بلاد دون تقاليد ديمقراطية ينبغي أن يعمل الجميع معا على بناء المؤسسات، وتونس أدركت ذلك وحركة النهضة أدركت ذلك أيضا، الاستقطاب يمكن أن يدمر مجتمعا وآمل أن تكون تونس نموذجا تحتذي به الدول الأخرى" . البرادعي قيمة سياسية وقانونية كبيرة ، وصاحب رؤية وخبرة دولية رصدت تحولات العالم كله من مكان علي طوال قرابة أربعين عاما ، وشارك بنبل في تفجير الثورة المصرية في يناير 2011 رغم كبر سنه وتحمل شتائم وبذاءات نظام مبارك وإعلامه ، بل كان هو على مستوى الأشخاص الرمز الأكبر في تلك الثورة ، وإن كانت مشكلته الأساس أنه لم يكن يمتلك كتلة شعبية كبيرة أو ذات ثقل بحكم غربته الطويلة عن مصر ، مما جعله ضحية استقطابات عصيبة ومتشنجة من تيارات شابة حديثة عهد بالديمقراطية والعمل السياسي الحقيقي والمسؤول ، هذه حقائق لا يمكن إنكارها تحت وقع أي خلاف أو غضب لموقف له هنا أو هناك بعد ذلك ، واستقالته السريعة احتجاجا على مذبحة رابعة ، والتي تلقى عليه سيلا من الشتائم والاتهام بدعم الإرهاب ، توضع في رصيده الوطني بدون شك ، رغم أي تحفظ على مشاركته على إطاحة مرسي ، وهو أكد وأعتقد أنه صادق أن المسار لم يكن يقصد إطاحته والانقلاب عليه ، وإنما الدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة ، وهو ما أصر مرسي على رفضه ، وتلك النقطة ستظل غامضة وملتبسة وعلمها عند ربي لأن أسرارها أكثر من المنشور عنها . حوار البرادعي ، ربما كان مقدمة لمواقف سياسية مقبلة له يشتبك فيها مع أزمات الوطن وهمومه ، وهو يأتي ضمن مراجعات جادة وصادقة من الرموز والقوى الوطنية التي شاركت في جبهة 30 يونيو ، ثم تبين لها أن المسار كان كارثيا ، وهي مراجعات لا بد من استقبالها بجدية لائقة ، واحترام يشجع على المزيد منها من أجل إنقاذ الوطن وتصحيح المسار واستعادة قيم الثورة الحقيقية ومعها الديمقراطية الحقيقية .