سيظل الجامع الأزهر ملهماً للمفكرين والمؤرخين فى الشرق والغرب، هذا المعهد العتيد تتجدد حيوته، ويظل عطائه ممتداً طالما سارت عجلة التاريخ . لقد كُتبت عنه الدراسات الجليلة، وتناولت تاريخه الحافل بالنضال ورجاله الأبرار الذين يوجهون مسار الأمة، رغم محاولة البعض أن يطمس دوره ويحط من مكانته، ولكن الواقع أثبت فشل هذه الدعاوى الكاذبة وصار تأثيرها كزبد البحر .. وسوف نبحر اليوم مع كتاب حافل "تاريخ الجامع الأزهر"، وهو من الدراسات المؤسسة لتاريخ الأزهر، كتبه مؤرخ ثبت، حجة، هو الأستاذ محمد عبدالله عنان، الذى يمتلك أدوات المؤرخ ويسخرها بدقة متناهية، وكانت هذه الدراسة التى نتعرض لها اليوم حلقة فى سلسلة كتاباته عن مصر الإسلامية، بدأت بكتب "مصر الإسلامية وتاريخ الخطط المصرية"، و"الحاكم بأمر الله وتاريخ الدعوة الفاطمية"، و"مؤرخو مصر الإسلامية" بالإضافة إلى المئات من المقالات فى الصحف والمجلات. وقد صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب فى شهر يونيه سنة 1942 الموافق جمادى سنة 1361ه، وقصد المؤلف بإخراجه فى هذا التاريخ إلى بلوغ الجامع الأزهر عمره الألفى فى اليوم السابع من رمضان 1361ه، (الموافق 18سبتمبر سنة 1942م، وحال الإحتفال يؤمئذ أن كانت الحرب العالمية الثانية، فى أوج اضطرامها ، فلم يكن ثمة مجال، ومر العيد الألفى لهذا الجامع فى غمرة الحوادث دون احتفال، وحاول المؤلف أن يلفت الأنظار لأهمية هذا الحدث ولكن دون جدوى، والجدير بالذكر أن الاحتفال قد تأخر قرابة الأربعين عاماً إذ تم فى بداية الثمانينيات.
وقد تعرض المؤلف فى طبعته الأولى المشارة إليها للإفاضة فى تاريخ الأزهر ونظمه وأحواله خلال العصر الفاطمى، منذ أن جاءت قوات جوهر الصقلى فى شعبان 361ه، وتخطيطه للقاهرة وبنائه للمسجد الجامع ليتوسط المدينة الجديدة ، واقتصر دور هذا الجامع الأزهر فى بدايته على إقامة الشعائر الدينية ونشر المذهب الشيعى، ثم تناول المؤلف فى الفصل الأول، لمعالم الأزهر والمدينة الفاطمية، كذلك تعرض لتجديد الأزهر وعمارته عبر العصور.. ثم تحدث فى فصل تال عن (الأزهر ودار الحكمة) التى أنشأها الحاكم بأمر الله فى العاشر من جمادى الآخرة 395ه ، بعد خمسة وثلاين عاماً من إنشاء الأزهر، وكانت مجالس العلم تعقد من قبل بالقصر الخلافة وأحياناً بالأزهر وكانت تسمى مجالس الحكمة ينظمها قاضى القضاة وتقرأ فيها علوم آل البيت ، ويهرع الناس إلى شهودها، وتخصص فيها مجالس للخاصة، ومجالس للكافة وأخرى للنساء، ولكن الحاكم رأى أن تكون هذه المجالس أوسع مدى، وأن تنظم فى سلك حلقات دينية وعلمية متصلة يجمعها معهد رسمى واحد، فأنشىء المعهد الجديد وأطلق عليه دار الحكمة أو دار العلم، ووجد فى العصر من القرن الخامس الهجرى منافذ ثقافية وحضارية تنطلق من الأزهر ومسجد عمرو ودار الحكمة، فى الوقت التى اضمحلت فيه دولة التفكير والأدب فى بغداد، وأخذت مصر تتأهب بدورها لرعاية التفكير الإسلامى فى المشرق، وأخذت قاهرتها تجذب أنظار العلماء فى المشرق والمغرب، ولكن الضعف ران على دار الحكمة هذه منذ منتصف القرن الخامس الهجرى، وانتكست الحياة العقلية فى مصر الإسلامية واستمرت على هذا المنوال حتى سقوط الدولة الفاطمية، بعدها اهمل الأزهر واغلق تماماً خلال الحقبة الأيوبية، ولكنه عندما اعاد الظاهر بيبرس افتتاحه، ظهر التحول الحقيقى له وابتدأ الراعى الحقيقى لمذهب أهل السنة ليس فى مصر وحدها ولكن فى جميع أنحاء العالم ...
وفى طبعة الكتاب الثانية سنة 1958، يضيف المؤلف إليها فصولاً جديدة فى تاريخ الأزهر منذ عصور السلاطين المماليك وحتى عصره، وعنى عناية خاصة بتفصيل (الدور القومى) الذى لعبه الأزهر، شيوخه وطلابه، أيام الإحتلال الفرنسى، حيث كان الأزهر مهد المقاومة ضد الحملة، وقام علمائه بمقاومة المستعمر الغاشم فى ثورات متتالية حتى اضطر فى النهاية على التسليم والرحيل يجر أذيال الخيبة، فالمؤلف هنا يرصد الحقيقة المطلقة التى يتوخاه فى مؤلفاته، لم يجر وراء وهم الإعجاب بالمستعمر الغاشم، ويختلق من الأحداث التى تضفى عليه بأن جاء إلينا وغايته تحضرنا كما زعم العديد من المغرضين وعلى رأسهم لويس عوض، والشاعر صلاح جاهين... لم يستسهل الوصول إلى النتائج، وإنما إطلع على الوثائق والمخطوطات وسجلات المحاكم الشرعية والمؤلفات الغربية والعربية ... يوازن بينها بميزان النقد الدقيق... ليتوصل إلى نتائج هائلة وجيدة، ثم خصص المؤلف فصلاً بعنوان "الجامع الأزهر والحياة العامة " تحدث فيه عن مركز الأزهر فى العصر الفاطمى ومركزه أيام الأيوبيين، حيث كان دوره محدود يعتمد على نشر الثقافة والمعرفة.
أما ابتداء من عصر السلاطين المماليك بدأ أهميته السياسية تظهر فى الأفق رويداً رويدا حتى عظم هذا الدور فى عصر الخلفاء العثمانيين حيث أنشىء منصب شيخ الأزهر فى هذا الوقت، وكان هو الملجأ والملاذ الذى يقصده الناس وقت الشدائد ولم يؤثر عن علمائه فى هذه الفترة أن داهنوا السلاطين بل كانوا يتعرضون لمظالمهم دون خوف أو وجل، ثم يعرض لتاريخه المجيد فى القرن الثامن عشر، ودوره فى إرهاصات النهضة وجهود علمائه وشيوخه فى التصدى لمظالم المماليك وكان أشهرها الوثيقة التى تعهد فيها البكوات فى احترام حقوق الشعب، ثم يفصل دوره فى هذا الفصل إبان الحملة الفرنسية، ثم دوره فى قيادة دفة البلاد بعد رحيل الحملة الفرنسية حيث تصارعت القوى السياسية على تولى مقاليد الحكم، ثم يتم اختيار محمد على بإرادة شعبية رغم معارضة الباب العالى لذلك، ثم ينقلب هذا المغامر على الأزهر ويقلم أظافره ويزرع الشقة بين رجاله ويصادر أوقافه التى كانت تضمن له الاستقلالية فى المكانة العلمية والسياسية، لذا انكش دوره فى عصر محمد على برغم أنه رجاله كانوا وقود نهضته فى المجالات: العسكرية والعلمية، ثم يتعرض لبدء اليقظة ومجىء جمال الدين الأفغانى وحلقاته وأثره فى بث الوعى الإصلاحى، ثم دور الأزهر فى ثورات مصر الوطنية فى الثورة العرابية حيث كان للأزهر دور حاسم فيها وزعيمها نفسه كان ازهريا وشايعه فى نضاله كل رجالات الأزهر، وثورة 1919 التى انطلقت شرارتها من الأزهر الشريف وكان رجاله وعلمائه وقود لهذالثورة ، وثورة يوليو.
ثم يفرد المؤلف فصلاً للحديث عهد التطور والإصلاح ووصف أحوال الأزهر فى أوائل القرن التاسع عشر وبداية عصر محمد على وقيامه بالنهضة العلمية والبعثات التى كان جل رجالها من الأزهر الشريف، الذين أخذوا على عاتقهم المساهمة فى هذه النهضة وكان منهم طلاب أفذاذ مثل رفاعة الطهطاوى إمام البعثة الأولى وصاحب الفضل فى إنشاء مدرسة الأزهر، وابراهيم النبراوى نابغة الطب، وكان لأبناء الأزهر فى أعقاب تلك الفترة أعظكم فضل فى إخراج الموسوعات والمصنفات العربية والإسلامية التى عكفت على إصدارها مطبعة بولاق منذ منتصف القرن 19، والتى كان إخراجها من أعظم العوامل فى إحياء الأدب القديم. و يتعرض للإصلاحات والقوانين التى صاحبت هذه الدعاوى الإصلاحية مثل قانون كساوى العلماء وقانون 1912، وقانون1930الذى بمقتضاه تم تنظيم التعليم بالأزهر وإنشاء كليات الجامعة الأزهرية الثلاث.
ثم يختتم المؤلف سفره الرائع بوثائق وإحصائيات جليلة القدر مثل وقفية الحاكم بأمر الله على الجامع الأزهر ودار الحكمة وميزانية الجامع الأزهر وأوقافه، وثبت بشيوخ الجامع الأزهر منذ أواخر القرن السابع عشر وحتى نهاية القرن التاسع عشر، ثم يفصل القول عن مكتبة الأزهر منذ الدولة الفاطمية وحتى عصره.