لم يكن "الأزهر" في يوم من الأيام مجرد مسجد شيد لإقامة الصلاة فحسب، وإنما منذ وضع اللبنة الأولي في بنائه كان يهيأ لمهام عظمي، تتعلق بأفكار الناس وعقائدهم، فكان جامعًا للدعوة بالأساس، فلقد أنشأه الفاطميون للدعوة إلي المذهب الشيعي، ثم أغلقه الأيوبيون من أجل الدعوة إلي المذهب السني، وأعادت الدولة المملوكية افتتاحه، وشرع أمراؤها في إضافة مدارس العلوم الشرعية إليه، علي سبيل الدعاية لهم واظهارهم كملوك وأمراء يهتمون بالدين، فيزيد لهم التمكين بين شعب لا يقدر شيئًا كما يقدر الدين. ولم يكتف الأزهر بهذا الدور الخطير، وإنما لعب دورًا وطنيًا لا يقل عنه خطورة، فعلماؤه هم من أطلقوا شرارة الثورة علي حكم الحملة الفرنسية، ليشتعل غضب الأهالي من معسكرات جنود حملة الفرنسيس، مما لم يكن معه اختيار سوي التفاوض علي الرحيل عن مصر. وهو الأزهر الذي كان له الدور الأكبر في دخول مصر إلي طور جديد من أطوارها عبر التاريخ، أقصد الدولة الحديثة عندما مكن علماؤه لحكم محمد علي، ووطدوا له الأمر، لينطلق بمصر نحو التقدم العلمي بسرعة كبيرة. كما أن الأزهر أسهم في تأجيج الغضبة الكبري ضد الإحتلال الإنجليزي الذي نشب مخالبه في جسد مصر، ليقود مشايخه مظاهرات سنة 1919 التي كان لها ما بعدها من تبعات في سبيل الخلاص من حكم بريطانيا، وهو ما تم بقيام ثورة 1952 وفي هذا الكتاب المعنون ب "تاريخ الجامع الأزهر"، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في مشروع "مكتبة الأسرة"، نطلع علي رؤية متكاملة لهذا الصرح الإسلامي الكبير، كُتبت بلغة بديعة، تليق بحجم باحث ومترجم ومؤرخ في قامة محمد عبدالله عنان، مؤلف هذا الكتاب البديع. وإن كانت هذه الطبعة التي بين أيدينا قد صدرت في العام المنصرم، فإن طبعته الأولي لم تصدر إلا في شهر يونيو من عام 1942 وهو ما أوضحه المؤلف في مقدمته التي صدر بها طبعته الثانية التي نشرت في عام 1958 بناء علي طلب من وزارة الثقافة والإرشاد آنذاك. يقول عنان متحدثًا عن السبب الذي دفعه لوضع هذا الكتاب: "كنت أقصد توجيه الأنظار إلي حدث علمي وقومي مهم، هو بلوغ الجامع الأزهر، جامعة مصر الإسلامية الكبري، عمره الألفي، وإلي أنه يجب أن يحتفل بهذا العيد احتفالًا قوميًا يليق بخطره وعظمته". وإذا كان المؤلف قد عني في الطبعة الأولي بالإفاضة في تاريخ الأزهر، ونظمه وأحواله خلال العصر الفاطمي، مكتفيًا في باقي الكتاب بالمرور السريع علي تاريخه في باقي العصور، إلا أنه في الطبعة الثانية، يقدم ما هو أغزر بكثير، فقد أضاف فصولًا جديدة، منذ عصور السلاطين حتي عصرنا، وعني عناية خاصة بتفصيل الدور القومي العظيم الذي لعبه الأزهر؛ شيوخه وطلابه، أيام الإحتلال الفرنسي، كما عني باستعراض جمهرة كبيرة من علماء الأزهر، والعلماء الوافدين عليه في مختلف العصور. وفي سبيل إخراج هذا الكتاب بمثل هذه الدقة والشمولية كان لابد للمؤلف من أن يلجأ إلي طائفة ضخمة من المراجع المهمة، وهو ما يؤكده قوله "استعنت بمؤلفات المقريزي، والقلقشندي، وابن تغري بردي، والسخاوي، والسيوطي، والجبرتي، وبالعديد من الوثائق والإحصاءات المتعلقة بمنشآت الأزهر، وموارده، وميزانيته، وشيوخه، وطلابه". نُسق هذا العمل في كتابين، أولهما مكون من سبعة فصول، تناولت قصة هذا الصرح منذ نشأته وحتي اندحار الفاطميين أمام الإيوبيين، لنكتشف العديد من المعلومات المدهشة، منها أن الجامع الأزهر لم يسمي بهذا الإسم فور انتهاء بنائه في العاصمة الجديدة للفاطميين، وإنما سمي (جامع القاهرة) وأما تسميته بالجامع الأزهر فالظاهر أنها لم تحدث إلا في تاريخ متأخر، بل هناك ما يدل علي أن التسمية الأولي، أعني جامع القاهرة، هي التسمية التي كانت تغلب عليه طوال العصر الفاطمي. والظاهر أن الجامع الأزهر أطلق عليه بعد إنشاء القصور الفاطمية في عصر العزيز بالله التي كان يطلق عليها القصور الزاهرة، ومنها اطلق علي جامع القاهرة، وهو مسجد الدولة الرسمي، اسم الجامع الأزهر. أما ثاني الكتابين فقد جاء في سبعة فصول أيضًا، تناولت الأزهر في عصور السلاطين المماليك، وفي العصر التركي، ومقاومته وقت الاحتلال الفرنسي، وتوضح كيفية إدارة هذا الجامع الكبير ودور مشيخته في حياة المصريين العامة، والخطوات التي جرت في سبيل إصلاح الأزهر. أما القسم الثالث، والأخير، فقد احتوي علي بعض الوثائق المهمة، مثل نص سجل الوقف الذي أوقف بمقتضاه الحاكم بأمر الله بعض أملاكه بمصر والقاهرة علي الجامع الأزهر ودار الحكمة، وبعض المساجد الأخري، وكذلك نجد صوراً لبعض الإجازات التي كان يصدرها أكابر العلماء لتلاميذهم، كإجازة التدريس والفتيا والرواية وغيرها.