نظر الكثيرون لرد فعل الحكومة المصريَّة تجاه جريمة إسرائيل بحق الجنود المصريين في سيناء على أنه كان "مرتبكًا" و"أضعف مما يجب"، خاصة أن البعض كان يريد –ويتوقع- ردًّا يبرهن على أن مصر بعد ثورة 25 يناير لم تعد كما كانت من قبل، وهو ما عبَّرت عنه هتافات المتظاهرين أمام السفارة الإسرائيليَّة، من أن "دم المصري لم يعد رخيصًا"، في إشارة لتساهل نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك في دماء عشرات الجنود الذين قتلتهم إسرائيل في السنوات الأخيرة، خلال حوادث مشابهة. لكن في مقابل هذه النظرة هناك من يرى أن المشهد أوسع وأكثر تعقيدًا من مجرد حصره في تعاطي الحكومة مع الأزمة، فذلك كان فقط أحد أركان المشهد، ولم يكن مجمل الصورة، فاللقطة الأهم تمثَّلت في التفاعل الشعبي الواسع مع الحدث، فمن ناحية كان هناك إجماع شعبي على ضرورة الرد الحاسم، وجعل الإسرائيليين يدفعون ثمن جريمتهم، ليفكروا كثيرًا قبل الضغط مجددًا على زناد أسلحتهم المصوَّبة لصدور المصريين. وعي شعبي وفي نفس الوقت كان هناك وعي شعبي، ربما فاق وعي بعض القوى والتيارات السياسيَّة، بأهمية عدم الانجرار إلى مواقف عنتريَّة، لا تستند إلى حسابات واقعيَّة مدروسة، بالإضافة إلى أن الاهتمام الأكبر يجب أن ينصبَّ نحو إتمام المرحلة الانتقاليَّة في سلاسة، وصولا إلى إجراء انتخابات برلمانيَّة ورئاسيَّة نزيهة وشفافة، ووضع دستور يكرِّس دولة القانون والحريات. ومع الساعات الأولى للجريمة اندلعت المظاهرات أمام السفارة الإسرائيليَّة، وتحوَّلت إلى ما يشبه الاعتصام الدائم، وهو ما شكل أداة ضغط على التعاطي الحكومي مع الأزمة، بحيث أنه لأول مرة منذ سنوات طويلة نشهد اجتماعًا حكوميًّا يمتد حتى ساعات الفجر الأولى، ويعقبه مؤتمر صحفي لإعلان القرارات، في دلالة على أن الشارع بات هو من "يضبط إيقاع" الأداء الحكومي، وأن البوصلة الرسميَّة أصبحت موجهةً نحو إرضاء الرأي العام الداخلي، وليس نحو إرضاء الخارج كما كان في السابق. ارتباك وجديَّة ورغم الارتباك الذي شاب إعلان موقف الحكومة، وتضارب البيانات الصادرة عنها، إلا أن ذلك لم يخلُ من لمحات إيجابيَّة، فوجود أكثر من مسودة لبيان الحكومة يؤشر لوجود مناقشات جدية داخلها، وأن المواقف كانت متباينة، وهو أمر لم يكن معتادًا خلال ال 60 عامًا الأخيرة، فالقرارات السياسيَّة كانت تُصنع بعيدًا عن "المطبخ الحكومي"، وتحتكرها مؤسسة الرئاسة ودائرة ضيقة من الحاشية والمستشارين المقربين، لكن هذه المرة جرى صياغة الموقف الرسمي بمشاركة الحكومة وممثلين عن المجلس العسكري، باعتباره السلطة الحاكمة في البلاد، والجهة الأكثر اطِّلاعًا على تفاصيل وملابسات الموقف. ويلاحظ هنا أن المجلس العسكري، ورغم أنه الفاعل الرئيسي والممسك بكل خيوط اللعبة، إلا أنه حاول الابتعاد عدة خطوات عن صدارة المشهد، تاركًا تلك المهمَّة للحكومة، لكنه مع ذلك سعى للعب على وتر "إرضاء" الرأي العام الغاضب، فقد جرى تسريب معلومات، تأرجحت بين النفي والتأكيد، عن زيارة رئيس الأركان الفريق سامي عنان لموقع الاشتباكات بعد ساعات من اندلاعها، وإصداره أوامر بإطلاق النار على أي جندي إسرائيلي يحاول اختراق الحدود، كما جرى الحديث عن "لجنة تحقيق" في الحادث يرأسها عنان بنفسه. من أدار الأزمة؟ لكن في المحصلة، وباستثناء البيان الحكومي وقيام الخارجيَّة باستدعاء السفير الإسرائيلي لإبلاغه احتجاج مصر، فإن المجلس العسكري هو من أدار الموقف بأكمله، فهو من أدار الاتصالات مع الإسرائيليين، وهو من تعاطى مع الاتصالات الأمريكيَّة لمنع تدهور الوضع، وهو أيضًا من أدار التدخل المصري لوقف التصعيد الإسرائيلي في قطاع غزة، ولا توجد أي مؤشرات على وجود أي مساهمة للحكومة في ذلك، حيث أن الأجهزة السياديَّة التي تدير هذه الملفات، وتملك خطوط الاتصال مع الإسرائيليين والأمريكيين، تتعامل مباشرةً مع المجلس العسكري، كما كانت تتعامل في السابق مع مؤسسة الرئاسة. والجديد في الأمر هو فقط الاهتمام بوضع الحكومة في صورة ما يجري، حتى لا يحدث تضارب في المواقف، ورغم ذلك فالبعض يدرج البيان الحكومي الذي تضمن قرارًا بسحب السفير المصري في تل أبيب بخانة "التضارب" بين الحكومة والمجلس العسكري، وليس خانة "الخطأ" غير المقصود، كما برَّرت الحكومة. وعلى العكس من ذلك "التضارب" المزعوم، فإن مواقف القوى السياسيَّة كانت شبه "موحدة"، ولم يعكس اختلاف "لهجات" الإسلاميين والليبراليين والقوميين أي اختلاف في المضمون، لكن الأمر اللافت هو تبني القوى الليبراليَّة، التي يعتبرها البعض مقربةً من الغرب وتتلقى دعمًا وتمويلا منه، خطابًا حادًّا للغاية تجاه إسرائيل، بل امتدت انتقاداتها لتشمل الموقف الأمريكي من الأزمة، وذلك في محاولة لنفي تلك التهمة، وكسب تعاطف الرأي العام. لوبي "كامب ديفيد" وفي مقابل ذلك فقد كشفت الأزمة عن تواجد إعلامي قوي للوبي يضمّ مجموعة من لواءات الجيش والمخابرات والدبلوماسيين السابقين، الذين يتعاملون مع وسائل الإعلام بوصفهم محللين عسكريين وخبراء سياسيين، ويستهدف هذا اللوبي بث رسائل تثير الفزع والخوف تجاه أي تصعيد مع إسرائيل، ويتعامل هؤلاء مع اتفاقية كامب ديفيد على أنها "صنم مقدس" يجب عدم الاقتراب منه مطلقًا، وأن سيناء "لقمة سائغة" سوف يلتهمها "الأسد" الإسرائيلي إذا ما ارتكبت مصر أي خطأ أو أخلَّت ببند من بنود "كامب ديفيد". ويعتبر هؤلاء أن "أمن الحدود" مسئوليَّة مصر بمفردها، ويروجون لسيناريوهات عن تدخل دولي أو احتلال إسرائيلي لأجزاء من سيناء؛ لإقامة منطقة عازلة حال حدوث أي اختراق لذلك، وبالتوازي مع "الخوف المرضي" من إسرائيل و"الود البالغ" تجاه "كامب ديفيد"، واعتبارها السبب في أي خير حلَّ بمصر منذ توقيعها، فإن أفراد هذا اللوبي يكنون عداءً مستحكمًا تجاه الفلسطينيين في قطاع غزة، بدعوى أنهم يسعون لتوريط مصر في حرب جديدة مع إسرائيل، وأن مصر لم تجنِ من وراء الفلسطينيين سوى الحروب والدمار. ويبدو جليًّا أن الهدف الأساسي من وراء ذلك هو عزل مصر عن الملف الفلسطيني، واعتبار العلاقة بين مصر وإسرائيل ملفًّا منفصلا تمامًا عن مجريات الصراع العربي الإسرائيلي، بمعنى أنه مهما فعلت إسرائيل في فلسطين أو لبنان أو سوريا؛ فيجب ألا تتأثر العلاقة معها بذلك، وهو ما كان يطبِّقه نظام مبارك بشكل نموذجي، ولعل ذلك ما جعل إسرائيل تصفه ب "الكنز الاستراتيجي". "ملاحظة إجماليَّة" ومع أن هذا اللوبي تصدَّر المشهد الإعلامي خلال الأزمة، إلا أن المزاج الشعبي المعادي لإسرائيل أجبر وسائل الإعلام على إفساح المجال لحضور أصوات أخرى، رأت فيما حدث فرصة ذهبيَّة للضغط على إسرائيل والولايات المتحدة لإدخال تعديلات على اتفاقية "كامب ديفيد" تتيح لمصر نشر قوات وعتاد أكثر مما هو مسموح به حاليًا، كي تستطيع تأمين منطقة الحدود الوعرة، ومواجهة الجماعات التفكيريَّة التي بدأت تنتشر في سيناء؛ مستغلةً ضعف التواجد الأمني والاحتقان الشعبي بين بدو سيناء وبعض مؤسسات الدولة. وكملاحظة إجماليَّة فإن الأحداث المتلاحقة، داخليًّا وحدوديًّا وإقليميًّا، تؤكد حاجة مصر الملحَّة في الإسراع بإنهاء المرحلة الانتقاليَّة، كي يكون هناك برلمان وحكومة ورئيس منتخب، لديهم الصلاحيات الكاملة للتعامل مع تلك التحديات، بدلا من العلاقة الملتبسة ما بين الحكومة والمجلس العسكري، إضافة إلى أن حالة "السيولة السياسيَّة" التي تعيشها البلد، تهدِّد بخطر الانزلاق إلى الفوضى أو الوقوع تحت "حكم العسكر". المصدر: الاسلام اليوم