ردود الفعل في مصر على استشهاد جنودنا بأيادٍ إسرائيلية غادرة تكشف عن الآتي: شعب غاضب ثائر حي لا يفرط في كرامته ولا في قصاصه من القتلة. حكومة ومجلس عسكري - هما النظام الحاكم الآن - حركتهما بطيئة، أثقال المسؤولية لا تجعلهما قادرين على مواكبة شعب حر متحرر يسير من دون أثقال، لكن الإغراق في تبعات المسؤولية قد يقود إلى عدم القدرة على الفعل أو رد الفعل وإرضاء الشارع. بالنسبة لحكومة عصام شرف تبدو لي كأنها صورة أخرى من حكومة أحمد نظيف، والفارق أن نظيف كان يدرك حدود دوره، فلم يكن يتحدث في جريمة كهذه إلا إذا طلب منه الحديث، وكان ينتقي العبارات المناسبة المطاطة التي لن تغضب الرئيس، أما شرف فقد نسي أو تناسى أنه مثل نظيف- مجرد كبير السكرتارية عند الرئيس الذي هو المجلس العسكري الآن- فأخذ يتحدث بلغة قوية ويصدر قرارات معقولة وإن كانت أقل من المطلوب، ثم بعد ساعات يتراجع عن انتفاضته، وتتحول النار إلى رماد، ويبدو أن ذلك تم بعد أن أمره أو وجهه المجلس للتهدئة والانضباط وعدم تجاوز دوره كرئيس للسكرتارية. مدهش أن تدعو الحكومة الأحزاب والقوى السياسية بعد أسبوع كامل من استشهاد الجنود لتدارس الرد الشعبي على الجريمة، أليست تلك مهزلة؟، أيتها الحكومة.. الشباب صغار السن أعلنوا وبتلقائية عن الرد فورا عندما ذهبوا وتظاهروا أمام السفارة واعتصموا وأنزلوا العلم وطالبوا بطرد السفير وسحب سفيرنا من تل أبيب ومحاسبة القتلة وإيقاف ضخ الغاز وإعادة النظر في معاهدة السلام وإلى آخر المطالب المشروعة. أما المجلس العسكري فقد أدخل نفسه في لعبة الحسابات الطويلة المعقدة ووضع أمامه "فزاعة" أمريكا المصطنعة، والقلق من أيادي إسرائيل الطويلة في التحريض على مصر. مازالت هناك بقية من نهج وسياسات حقبة انتهت، ولابد أن يتم التخلص منها تماما. نهج سياسات فيها تريث طويل ومهادنة أكثر من اللازم ، والدخول في التوازنات حتى يصل الموقف إلى الدرجة صفر، أي لا موقف. كان مبارك يخشى دوما من أمريكا وإسرائيل وكأن المقادير بأياديهما. كان لديه شعور دائم بالضآلة والقابلية للانهزام فيضطر لاتخاذ مواقف مخجلة. لم أكن يوما في موقف مناهض للمجلس العسكري، بل في حالة دفاع عنه وتوقير له وتقدير لدوره في الثورة، لكن موقفه الظاهر لنا من استشهاد جنودنا قد لا يتناسب مع حجم الجريمة ولا يواكب غضب المصريين الذين يقفون وراءه ويثقون فيه ويتطلعون إلى أن يرفع هامة مصر عاليا وأن يصلح ما انكسر خلال سنوات طويلة. الشاب البسيط أحمد الشحات الذي أنزل العلم الإسرائيلي، فعل ما فعله دون أن يشغل نفسه بالحسابات العقيمة الموروثة من عهد مبارك. هل نسي المجلس أن المعادلة تغيرت في مصر الآن، وأن الشعب ثار على كل السياسات القديمة، ومنها ابتلاع الإهانة؟. الشعب لم يطلب الحرب اليوم، ولا غدا، ولا أحد يريد الحرب، أو يحبها، والحرب لا تحل مشكلة، ولم تحل أي مشكلة في يوم من الأيام، كل ما يريده المصريون هو الحفاظ على كرامتهم وكرامة بلدهم. إذا كان مبارك قد اغرق نفسه في التبعية لأمريكا وإسرائيل ولم يكن يقيم وزنا لشعبه، لأنه تصور أنه يستمد شرعية بقائه على الكرسي من دعمهما له، فإن الموقف تغير جذريا الآن، فقد لفظته أمريكا لما وجدت أنه يستحيل عليها إنقاذه، وإسرائيل قبلت بالأمر الواقع لما فشلت في الحفاظ عليه، والعرب الذين أيدوه عادوا وقالوا نحترم خيار المصريين. إذن شعب مصر هو وحده صاحب قرار التغيير، ونحن أمة قوية قادرة على الفعل ، وقد فعلنا. والأرزاق ليست بأيادي أمريكا، والأسد يرتكب مذابح ضد شعبه - وهي مدانة - لكن أمريكا أعجز من أن تفعل له شيئا، وهيلاري قالت إن واشنطن غير قادرة على التأثير في سوريا. أمريكا المخيفة يجب أن تسقط من مخيلة صانع القرار في مصر، لكن بقية مبارك ما زالت تحول بين صانع القرار وبين التحرر الكامل من تلك العقدة. لن نجوع إذا أوقفت أمريكا المعونة لأنها هامشية جدا في الاقتصاد ، ولا ندري ماذا تبقى منها ؟، ولا أين تذهب؟، ولا أوجه الاستفادة منها؟. ثم ما هي مساعدات أمريكا لنا بعد الثورة؟ . لا شيء يذكر. فإلى متى سنظل نخشى أمريكا؟. ولماذا نقزم أنفسنا ولا نعرف قدرنا ؟. المجلس العسكري والحكومة مطالبان بعدم خذلان الإرادة الشعبية، فالأنظار مازالت تتطلع إليهما.والمسافة بين الشعب وحكامه لا يجب أن تكون طويلة.فلابد أن يسير الاثنان متوازيان، كتفا بكتف، وقدما بقدم، ونبضة بنبضة. ليس بكثير سحب سفيرنا وطرد سفيرهم، والاستجابة لبقية المطالب، وهي كلها سياسية وليست دعوة للحرب، وهي رد مشروع على عدوان دموي حصل. كرامة الأمة المصرية يا مجلسنا العسكري.