في مقال الأسبوع الماضي تبيّن لنا اتفاق كلمة العلماء على أن السنة النبوية جزء من الوحي الرباني الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها جزء من الذكر المحفوظ، وهو الأمر الذي نصّت عليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وفي هذا المقال سنركز على الوظيفة المركزية للسنة النبوية، وهي: شرح وتفسير وتبيين القرآن الكريم، والتشريع المستقل عن القرآن الكريم، وأن هذا كله هو جزء من الوحي الرباني. قال تعالى: "وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلّمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما" (النساء: 113)، وقال تعالى مخاطباً أمهات المؤمنين، زوجات النبي صلى الله عليه وسلم: "واذْكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا" (الأحزاب: 34)، وقال تعالى مبينّاً دعوة خليل الرحمن - إبراهيم عليه الصلاة والسلام- لأهل مكة: "ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم" (البقرة: 129). والمفسرون والعلماء يجمعون على أن الحكمة في هذه الآيات وغيرها هي السنة، وأنها أنزلت مع القرآن الكريم على النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله عز وجل. ويكفي كمثال على موقف العلماء من تفسير الحكمة بالسنة النبوية قول الإمام الشافعي: "ذكر الله الكتاب، وهو القرآن، وذكر الحكمة، فسمعت من أرْضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله؛ لأن القرآن ذكر وأتبعته الحكمة، وذكر الله منَّه على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يَجُزْ -والله أعلم-أن يقال الحكمة ها هنا إلا سنة رسول الله. وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله، وأن الله افترض طاعة رسوله، وحتم على الناس اتباع أمره، فلا يجوز أن يقال لقول: فرض، إلا لكتاب الله، ثم سنة رسوله". (كتاب الرسالة للشافعي، 1/78). والاعتراض على السنة النبوية من ناحية المكانة والمنزلة ومن ناحية الدور والوظيفة، كان صنيع بعض الجهلة ممن لم يفقه حقيقة الإسلام منذ القرن الأول الهجري، قال الحافظ السيوطي في كتابه "مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة": أخرج البيهقي في كتابه "المدخل إلى دلائل النبوة" أن عمران بن حصين رضي الله عنه ذكر الشفاعة، فقال رجل من القوم: يا أبا نجيد، إنكم تحدثونا بأحاديث لم نجد لها أصلاً في القرآن. فغضب عمران وقال للرجل: قرأت القرآن؟ قال: نعم. قال: فهل وجدت فيه صلاة العشاء أربعاً؟ ووجدت المغرب ثلاثاً؟ والغداة ركعتين؟ والظهر أربعاً والعصر أربعاً؟ قال: لا. قال: فعمن أخذتم ذلك؟ ألستم عنا أخذتموه؟ وأخذناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. أوجدتم فيه: من كل أربعين شاة شاة؟ وفي كل كذا بعير بعير؟ وفي كل كذا درهم كذا؟ قال: لا. قال: فعمن أخذتم ذلك؟ ألستم عنا أخذتموه؟ وأخذناه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وجدتم في القرآن: "وليطوفوا بالبيت العتيق"، أوجدتم فيه: فطوفوا سبعاً، واركعوا خلف المقام؟ أوجدتم في القرآن: لا جلب، ولا جنب، ولا شغار في الإسلام؟ أما سمعتم الله قال في كتابه: "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" ؟ قال عمران: فقد أخذنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشياء ليس لكم بها علم. وفي رواية أخرى، قال الرجل: أحييتني أحياك الله، قال الحسن: فما مات ذلك الرجل حتى صار من فقهاء المسلمين. أ.ه وحين اعترض بعض الناس على أحد كبار التابعين وهو مطرف بن عبد الله بن الشخير، وقالوا له: لا تحدثونا إلا بالقرآن، فقال للسائلين: والله ما نريد بالقرآن بدلاً، ولكن نريد من هو أعلم منا بالقرآن! ويقصد النبي صلى الله عليه وسلم. وقد لخص الإمام الأوزاعي العلاقة بين الكتاب والسنة بقوله: "الكتاب أحوج إلى السنة، من السنة إلى الكتاب"، وذلك أن السنة النبوية تشرح وتفسر وتقدم التطبيق الصحيح لأحكام وأوامر القرآن الكريم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بكلام الخالق، لأن الله عز وجل هو الذي علمه لقوله تعالى: "وعلمك ما لم تكن تعلم". أما إمام علم مقاصد الشريعة الإمام الشاطبي فهو يقرر أن السنة النبوية تضيف وتزيد لأحكام القرآن الكريم، ويقول في كتابه العظيم (الموافقات، 4/14): "كل أدلة القرآن تدل على أن ما جاء به الرسول، وكل ما أمر به ونهى عنه، فهو لاحق في الحكم بما جاء في القرآن، فلا بد أن يكون زائداً عليه". إذن للسنة النبوية وظيفتان، الأولى: توضيح وتفسير وبيان القرآن الكريم، قال تعالى: "وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم"، وهذا يكون من خلال: 1- تفصيل أحكامه المجملة: مثل تفصيل أمر القرآن الكريم بالصلاة والصيام والزكاة كقوله تعالى: "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة"، فجاءت السنة وبينت مقدار الركعات وهيئات الصلاة، ومقادير الزكاة. 2- تقييد الأحكام المطلقة في القرآن الكريم: كقوله تعالى: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما"، فجاءت السنة وبيّنت مقدار وموضع قطع اليد وقيدته باليد اليمنى من مفصل الكف. 3- تخصيص الأحكام العامة: كقوله تعالى: "وأحل الله البيع"، فقامت السنة النبوية ببيان المراد من هذه الآية وهو جواز البيع الصحيح فقط وحرمة البيع الفاسد. 4- تأكيد ماجاء به القرآن الكريم: كقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم"، فهذه الآية أفادت الوجوب، فجاءت السنة وأكدت ذلك بأحاديث منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس) وذكر منها: (وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا). الوظيفة الثانية: استقلال السنة بتشريع بعض الأحكام، فقد أقرت السنة أحكاما لم تذكر في القرآن الكريم، كتحريم الجمع في الزواج بين المرأة وعمتها وخالتها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يُجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها). وهنا نصل للتنبيه على خطأ تجاه السنة النبوية يتداوله بعض الناس بحسن نية، وهو عرض السنة النبوية على القرآن الكريم، ويعتمدون في ذلك على حديث موضوع باطل وهو (سيفشو الكذب علي، فما سمعتم عني فاعرضوه على القرآن الكريم، فما وافقه فأنا قلته، وما لم يوافقه فأنا بريء منه). ومن أجمل ما قيل في إبطال هذا المنهج الفاسد قول الإمام الشوكاني: "ولقد فعلنا بهذا الحديث ما طلبه منا، فعرضناه على القرآن، فوجدناه يخالفه، في قوله تعالى: "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" وغيره فحكمنا بوضعه وبراءة النبي صلى الله عليه وسلم" (كتابه إرشاد الفحول، 29، بتصرف). لأن السنة النبوية الصحيحة لا تخالف القرآن الكريم بحال من الأحوال في الحقيقة، ولكن قد يكون فيها إضافة حكم وتشريع على ما في القرآن الكريم، لأنها دليل شرعي بذاتها "فالسنة والكتاب توأمان لا ينفكان، ولا يتم التشريع إلا بهما جميعاً"، كما يقول الشيخ عبد الفتاح أبو غدة.