مايتركه التليفزيون أو السينما من أثار كارثية في المجتمع ، هو تأثير تراكمي مثل تأثير الكيماويات في جسم الانسان ، إذ لم يصب الانسان بالفشل الكلوي أو بالسرطان إلا بعد تعرضه بالتراكم لكميات المواد الضارة التي تتراكم مع الزمن ولاتظهر أعراضها المدمرة إلا بعد مدة قد تصل لسنوات طويلة . بعض الأعمال الفنية التي يعرضها التليفزيون أوالسينما ، قد تؤتي ثمارها المدمرة مباشرة بعد عرضها ، مثل من يتجرع السم إذ يلقى حتفه على الفور ، و بعضها لايخلف كوارثه إلا مع التراكم وتوفر البيئة الملائمه لنمو الورم السرطاني . على سبيل المثال لم تكن عملية اهدار هيبة المعلم داخل المدارس المصرية تحتاج إلى وقت طويل بعد عرض العمل المسرحي التافه "مدرسة المشاغبين" الذي لم يكن له أية غاية تربوية نبيلة إلا انتزاع الضحك الرخيص على حساب قيم نبيلة تتعلق بعلاقة المعلم بتلميذه ، ولقد شاهدت بنفسي الاصل الاجنبي الذي حاكاه "بهلوانات" مدرسة المشاغبين عنهم . ولقد كان الفارق بينمها عظيما .. فرق كبير بين عمل راق وجاد عالج ظاهرة الشغب بالمدارس بطريقة تربوية رفيعة ويوظف الكوميديا توظيفا فنيا متميزا يخدم القضية التي كتب العمل من أجلها وليس كما قدمه المصريون .. عملا تافها لايستهدف إلا تقديم عمل "أرجوزي" كل همه اضحاك أناس شاركوهم الجهل بخطورة العمل على "التربية" داخل المدارس ، ليصدق فيهم قول الشاعر : يا أمة ضحكت من جهلها الامم !. وفي هذا الإطار تعمدت السينما المصرية انتاج افلام عنصرية ترتكز على النظرة الاستعلائية على ابناء النوبة و تكرس في نفوس المصريين تلك النظرة الدونية لكل ما هو نوبي بدون وازع من ضمير أو دين أو أخلاق ، ولقد حاولت حصر الاعمال التي اساءت إلى أهل النوبة إلا اني شعرت بالعحز عن حصرها أو حصر أهمها وابرزها ، حتى وقع نظري على مقال جميل ورائع لعميد كلية أداب أسوان د. أحمد سوكارنو عبد الحافظ وهو فيما يبدو من أصول نوبية ، إذ احصى في مقاله هذه الافلام و عرضها بشكل مؤلم يعكس مدى الالم الذي خلفته السينما المصرية في نفوس أهل النوبة ذلك الشعب الطيب العريق ، يقول د. عبد الحافظ : هناك افلام تقدم المواطن النوبي في قوالب ثابته لايمكن الخروج منها بأي حال من الاحوال ، فنجد النوبي في هذه الافلام يتقمص دور البواب أو المضيف أو الخادم ولم نشاهد مطلقا نوبيا مثقفا في هذه الاعمال "الفنية" فمثلا نراه في افلام اسماعيل ياسين بالعمامة و الجلباب يتحدث اللغة العربية بلكنة نوبية مخالفا قواعد اللغة مما يدعو إلى السخرية و الضحك في الوقت ذاته ، كما يمكن ان يتخلل حديثه بعض الكلمات النوبية بدون داع ، ومما يبين أن دور المضيف محجوز للشخصيات النوبية في مثل هذه الاعمال هو أن اسماعيل ياسين في فيلمه "الفانوس السحري" يتقمص هذا الدور من خلال دهن وجهه باللون الأسود ومحاولة النطق بكلمات غير مفهومة . ويضيف د. عبد الحافظ :" إن ممثلا كعلي الكسار عاش حياته ليقلد الشخصية النوبية في معظم افلامه ومسلسلاته ..فهذا الممثل الذي يحمل لقب أمه "زينب على الكسار" بدأ أولى خطواته مع الفن على مسرح كازينو "دي باري" بعماد الدين لتقمص شخصية "عثمان عبد الباسط" في مسرحية "حسن ابو على سرق المعزة" ثم قدم مسرحيات أخرى منها "اعقبال عندكم " ، "الدنيا بخير " ، "المسامح كريم" ، وكذلك كان يتقمص نفس الشخصية في افلامه السينمائية :" بواب العمارة" و"سلفني ثلاثة جنيه" و"الساعة 7" و"عثمان وعلى" و" بنت حظ" وإلى جانب اعمال هذا الممثل كانت هناك اعمال أخرى ساهمت في رسم الصورة النمطية لأبناء المجتمع النوبي ففي فيلم "يا حلاوة الحب" بطولة محمد فوزي ونعيمة عاكف ومن اخراج حسين فوزي نجد الخادم النوبي يقول "يا سعادة البيه .. يا سعادة البيه .. التلغراف يا سعادة البيه .. خير يا سعادة البيه .. الله لايقدر ولايكون " وكذلك في فيلم "حبي الوحيد" بطولة عمر الشريف وكمال الشناوي ونادية لطفي فإن المخرج لم يجد سوى طفل صغير ذي بشرة سوداء ليلعب دور الخادم في منزل عمر الشريف !. د. عبد الحافظ يبدو انه متابع جيد لكل ما اساء إلى النوبيين من اعمال سينمائية و تليفزيونية إذ يتابع : .. وقد يقول قائل : إن هذه الشخصيات الهامشية التي ترمز للمجتمع النوبي تنحصر في الأفلام القديمة . ولكنني أقول إن الأفلام الحديثة تحذو حذو الأفلام القديمة وتسير سيرا حثيثا في نهجها ، فشخصية " عبده " في فيلم " انتبهوا أيها الأزواج " بطولة بوسي وسعيد صالح وهشام عبد الحميد وإخراج حسن الصيفي هي في الواقع شخصية نوبية ويقوم بدور عبده الخادم في منزل " هشام عبد الحميد "ممثل من ذوي الأصول النوبية . كذلك الحال في فيلم " حكاية حب " بطولة حسين فهمي وآثار الحكيم وصلاح السعدني نجد الخادم " عم صالح " يقوم بدور النوبي الذي لا يعرف اللغة العربية حيث يرد علي سؤال حسين فهمي: " الست شمس فين ؟ " على فكرة ده قاعد مع الدكتور فؤاد" ، وكذلك نجد شخصية النوبي كبائع روبابيكيا في فيلم " خلف أسوار الجامعة " بطولة سعيد صالح وصلاح السعدني ويونس شلبي وإخراج نجدي حافظ. لقد عمدت إلى نقل هذه التفاصيل من مقال د. حافظ ، لأنها فعلا من قبيل الذاكرة أو على الاقل من قبيل انعاش الذاكرة الجمعية المصرية وتذكيرها بحجم الجرم الذي ارتكبته السينما و التليفزيون المصري في حق مجتمع من انبل المجتمعات المصرية واكثرها خلقا وتدينا [email protected]