لا إيهود باراك اعتذر لمصر ولا شيمون بيريز، فالأول أعرب عن أسفه لمقتل الجنود المصريين برصاص القوات الاسرائيلية، والثاني أعرب في اتصال مع سفيرنا في تل ابيب عن تعازيه لمقتلهم، وهناك فرق كبير بين الاعتذار الذي تترتب عليه تبعات سياسية وقانونية، وبين الاسف الذي يمثل محاولة لاحتواء الازمة! بعض الاعلاميين المصريين تلقفوا الأسف الاسرائيلي بوصفه اعتذارا، ولم يكن هذا صحيحا ، فالاسرائيليون في الواقع لا يعتذرون عما يرونه حقا في الدفاع عن النفس، بل ان مسئولين اسرائيليين سابقين طالبوا الجيش المصري بالاعتذار عما وصفوه بالفشل في ضبط الحدود، وهددوا باعادة احتلال سيناء من جديد. ولا غرابة عموما في هذا السلوك، فقادة تل ابيب يرون ان مصر ملتزمة بموجب معاهدة السلام ، بالدفاع عن أمن اسرائيل، والتصدي لعمليات المقاومة التي يعتبرونها ارهابية، وهم يقولون ان المعاهدة تلزم مصر بالتصدي لأية اعمال عنف يقوم بها اخرون ضد اسرائيل وتقديمهم للمحاكمة. وهكذا فاسرائيل تتعامل مع مصر باعتبارها الشرطي المنوط بحماية حدودها، وهو وضع كان قائما للاسف في عهد مبارك، لكنه تغير بعد ثورة 25 يناير وبعد ان تولي المجلس العسكري إدارة شئون البلاد، وماكان ممكنا في الماضي لم يعد له محل من الإعراب الآن، فالمصريون لن يقبلوا بدور "غفير الدرك" لإسرائيل! في الماضي لم يكن مبارك يكترث لأي اختراق اسرائيلي للحدود، ولم يكن يعبأ بقتل المصريين مدنيين وعسكريين، فالرجل كانت تربطه علاقة حميمة باسرائيل، وكان حريصا الى اقصى درجة على هذه العلاقة حتى لو كانت على حساب كرامة مصر وحرمة الدم المصري، ولعل هذا ما دفع الرئيس الاسرائيلي شيمون بيريز للقول بان مبارك كان اهم رجل في حياة اسرائيل بعد مؤسسها بن جوريون! المصريون لا يريدون اسفا اسرائيليا، هو أشبه بدموع التماسيح، وانما يريدون اجراءات ملموسة على الارض، فلا اقل من اعتذار رسمي تقدمه حكومة اسرائيل لمصر، مع تشكيل لجنة مشتركة للتحقيق، واتخاذ اجراءات عاجلة لمنع تكرار الحادث مستقبلا، والا فان اي حديث اسرائيلي عن احتواء الازمة هو مجرد دخان في الهواء. والاهم من ذلك ان تبدأ مراجعة عاجلة لمعاهدة السلام، فالمعاهدة التي تم توقيعها قبل 32 عاما لم تعد كافية لضمان امن مصر، فهي تحول دون ضبط حدودنا الشرقية، وتفرض قيودا على اي تحركات مصرية في سيناء، واذا كانت الولاياتالمتحدة والرباعية الدولية يضغطون على القاهرة لضبط حدودها مع اسرائيل ، فالمؤكد ان ذلك لن يتحقق بدون تعديل معاهدة السلام. فالمعاهدة حولت ثلثي سيناء الى منطقة منزوعة السلاح بعد ان قسمتها الى ثلاث مناطق: أولها المنطقة (أ) شرق قناة السويس بعمق 60 كيلومترا، وتتواجد فيها فرقة مشاة ميكانيكية محددة التسليح، والمنطقة ( ب ) بعرض 109 كليومترات، وتتواجد فيها أربعة كتائب من حرس الحدود والمنطقة (ج)، بعمق 33 كيلو مترا حتى الحدود مع اسرائيل وتتواجد فيها قوات شرطة مصرية مع القوات الدولية. بل ان المعاهدة حظرت وجود أي مطار أو ميناء عسكري مصري على مسافة 150 كيلومترا من الحدود مع اسرائيل وحظرت تحليق طائراتنا المقاتلة في تلك المنطقة، ونصت على وجود قوة متعددة الجنسيات قوامها 5 الاف جندي غالبيتهم من مشاة البحرية الامريكية في معسكر 'الجورة' شرق سيناء، وعلى جزيرة تيران في خليج العقبة، لمرقبة التزام مصر بالترتيبات الامنية! الاخطر من ذلك ان المعاهدة جردت 230 كيلومتراً من حدودنا مع اسرائيل تقريبا من اي حماية، مما ساعد على تنشيط عمليات التهريب للسلاح والمخدرات والنساء، ومع فرض الحصار على غزة بالتعاون بين اسرائيل ومبارك لجا الفلسطينيون الى حفر الانفاق لتأمين احتياجاتهم من الغذاء والدواء والسلاح. سيناء الان اشبه بقنبلة موقوتة بعد فشل نظام مبارك في دمجها بالدولة المصرية، وتعامل مع اهلها بوصفهم خونة وعملاء ومهربين، ولم ينفذ فيها اي خطة جادة للتنمية المستدامة، مما ساهم في بروز مشاعر انفصالية، هي الان محل استهداف من جانب اسرائيل، وكان غريبا ان يتم التعامل مع اهل سيناء(360 الف نسمة ينتمون الى 15 قبيلة رئيسية)بمكيالين، فالتنمية اقتصرت على جنوبسيناء، التي ضخت مليارات الجنيهات فيها على شكل مشروعات سياحية في شرم الشيخ وطابا، بينما عانت شمال سيناء من غياب التنمية وارتفاع معدلات الفقر والبطالة. وفي ظل هذا الوضع تحولت سيناء الى بؤرة للتوتر الامني بداية بتفجيرات خط الغاز، والاشتباكات المسلحة مع قوات الامن، والهجوم على قسم شرطة العريش، وقتل عدد من رجال الشرطة والجيش، وصولا الى العملية الفدائية في ايلات، وهناك توقعات باستمرار وتصاعد هذه العمليات مع القيود المفروضة على حركة الجيش المصري بموجب معاهدة السلام. بصراحة الاسف الاسرائيلي لا يكفي، ولا مفر من اعتذار رسمي وتحقيق مشترك في جريمة قتل الجنود المصريين برصاص القوات الاسرائيلية، ولا مفر ايضا من مراجعة معاهدة السلام، إذا كانت هناك رغبة جادة في الا تتطور الامور الى الاسوأ في المستقبل!