أتعاطف مع الحكومة الفرنسية التي واجهت أياماً عصيبة ضد إرهاب مسلح نرفض ربطه بالإسلام، كما نرفض ربط أي إرهاب بأي دين أو معتقد أو جنس أو قومية، فالإرهاب فردي أو منظم يُحسب على من يرتكبونه من أفراد أو جماعات، ولا يُحسب على أديانهم أو قومياتهم أو أجناسهم أو بلدانهم، والإرهاب المتدثر بعباءة الإسلام لا يعبر عن الإسلام ولا عن المسلمين. التعاطف ينسحب على حكومة أي بلد في العالم تواجه العنف الذي ينتشر ويريد العصف بالقوانين والحريات وحقوق الإنسان وكل مظاهر الحضارة والمدنية والحداثة ويفرض قوانينه الدموية وفهمه المنغلق اللا إنساني للأفكار وجوهر الأديان. لكننا في نفس الوقت وكما نتعاطف مع الحكومات الرسمية فإنها مطالبة وهي تواجه الإرهاب أن تلتزم بالحريات وحقوق الإنسان وألا تتخذ تلك المعارك ذريعة للعصف بتلك القيم ونشر الكراهية وإثارة النعرات الطائفية والدينية والقومية واتخاذ إجراءات قانونية عنصرية مكبلة فيها تضييق وإجحاف بحقوق الجاليات المسلمة. ندرك أن الحكومات الغربية أكثر ذكاء وسياسة وهي تحارب الإرهاب فهي لا تتوسع في التضييق والقمع وأخذ الناس بالشبهة بل تظل أكثر عقلانية في تحركاتها ومعالجاتها من حكومات بلدان العالم الثالث التي تمارس سياسة العقاب الجماعي للشعوب أو للمنتمين لتيارات سياسية أو لجماعات المعارضة وهي تواجه حدثا أو أحداثا كبيرة أو صغيرة حيث تتوسع في الاشتباه والتنكيل وانتهاك الحقوق والحريات المنتهكة من الأساس. في محنة فرنسا لم تفرض الحكومة إجراءات استثنائية إلا الاستنفار الأمني وهو طبيعي في مثل هذه الأوضاع ومثلا عدد المشتبه بهم الذين تم القبض عليهم كان قليلا جدا وكانت الحياة تسير سيرها الطبيعي ولم تنتهز الحكومة الفرصة لتقبض على من تريد من الجالية المسلمة ولم تتلبس النخبة الهستيريا للمطالبة بتشديد القوانين وتغليظ العقوبات وحتى لو حصل ذلك فإنه يتم من داخل البرلمان وبحسابات سياسية وقانونية دقيقة تراعي الحريات والدستور والمواثيق والمعاهدات الدولية. نأخذ على فرنسا الرسمية أنها إذا كانت علمانية إلا أن تلك العلمانية لا تقيم وزنا للأديان ورموزها ومقدساتها وحساسية التعامل معها وهذا خطأ فادح ذلك أنه إذا كان مقبولا في ظل العلمانية والثقافة الغربية تمرير وقبول انتقاد المسيحية والسخرية من رموزها إلا أن هذا الأمر مرفوض لدى المسلمين الذين يحترمون دينهم ويقفون ضد الإساءة لرموزه ومقدساته، وبالتالي يجب وضع ذلك في الاعتبار وحل تلك الإشكالية حتى لا يستمر هذا الجدل بين أفق الحرية الواسع وبين احترام الدين، وهنا نشدد على ضرورة التفريق بين الإسلام ورسوله والقرآن الكريم وبين المسلمين كأفراد وجماعات ونظم حكم وممارسات، فإذا كان ممنوعا الاقتراب من الدين فإن السلوك الإسلامي ليس محصنا ضد النقد، وهذا ما لا تريد أن تفهمه جريدة "شارلي ايبدو" التي تعرضت لاعتداء مدان، ولا تريد أن تستوعبه غيرها من وسائل الإعلام وبعض العقليات الفكرية والسياسية والدينية في الغرب، وهؤلاء لا يريدون الاستفادة من الدروس السابقة، بل يمعنوا في مواصلة الإهانة، وهذا مرفوض بالمطلق أمس واليوم وغداً، ومواصلة السخرية يعني أنهم يتعمدون الاستفزاز، ويضغطون بوقاحة على هذا العصب الحساس. ما تفعله "شارلي ايبدو" هو إرهاب فكري مستمر ومتعمد، ليس من حقها إهانة رسولنا وقرآننا، إنما يمكن أن تنتقد وتسخر من ممارسات أي شخصيات إسلامية وحتى هذا لا يكون لمجرد السخرية والإساءة إنما لوجود ما يستحق ذلك. كان على الصحيفة الفرنسية أن تستفيد من تجربة زميلتها الدنماركية، لكنها استلمت راية العناد والتحدي بعدها بشكل غير مبرر، بل تواصل إهانة أمة بكاملها، ومن الغباء أن تستمر صحف ومجلات وفضائيات أخرى في ارتكاب نفس الحماقات. مع ذلك لا يكون الرد ممن ينتسبون للإسلام هو حمل السلاح وإطلاق الرصاص ضد الصحيفة والعاملين فيها أو ارتكاب أي عمليات عنف وإرهاب في أي مكان آخر يتعرض فيه المسلمون للحط من قدرهم لأن العالم ينسى الإساءات ويهتم برد الفعل العنيف ليجد المسلمون أنفسهم متهمين ومدانين. الإرهاب الفكري لا يكون الرد عليه بإرهاب مسلح، إنما الرد يكون عقليا وفكريا وبمواقف رسمية من الحكومات تنتقد التطاول وتضغط لإيقافه، أو بأي وسائل حضارية أخرى بحيث لا يظهر المسلمون دمويين قتلة صدورهم ضيقة لا يمتلكون غير الدماء. لا أحد يتحدث الآن عن إساءات الصحيفة الفرنسية إنما العالم يتحدث عن الأخوين الجزائريين القاتلين وعن جريمتيهما، وعن محتجز الرهائن الذي قتل مع أربعة آخرين أبرياء، وعن قاتل الشرطية الفرنسية، بل حصلت الجريدة وضحاياها على تعاطف واسع، وصار اسمها أكثر شهرة مثل الصحيفة الدنماركية. لابد من احترام معتقداتنا، وإذا كانت الحرية لدى الغرب بلا سقف، فإنها لابد أن تراعي خصوصيات دينية وثقافية وفكرية للأمة الإسلامية، وهذا ليس تضييقا ولا انتقاصاً من الحرية، بل تهيئة بيئات التعايش والاحترام المتبادل. كيف أنه غير مسموح لأحد أن يقترب من "المحرقة" مثلا ولو بكلمة واحدة مسيئة، بينما يسيئون بشكل فاشي لنبي مرسل، وقرآن مقدس، ودين سماوي عظيم، وأمة كبيرة؟. الإرهاب الفكري مرفوض، والإساءة للأديان مرفوضة، والعنف والإرهاب المسلح مرفوضان. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.