لقد جاء الإسلام من عند الله -سبحانه وتعالى- قويا متينا، وتنبع قوته من ربانية مصدره، ومن حفظ الله تعالى له، فهو محفوظ ومحروس بحفظ الله سبحانه وتعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) [الحجر: 9]، جاء الإسلام متمما لمنهج الله وللرسالات السابقة، من أجل تنظيم أمور الناس الدينية والدنيوية، ويخلصهم من الأدران والأرجاس التي رانت على قلوبهم عبر عصور طويلة بسبب البعد عن منهج الله الذي جاء به أنبياؤه، والذي من شأنه -في حالة أتباعه وتطبيقه- ضبط حركة الإنسان وسلوكه على هذه الأرض، بل وضبط حركة الحياة كلها، وتنظيم العلاقات الإنسانية على أسس سليمة، وإعداد الناس للقاء ربهم يوم القيامة. وعلى الرغم من ذلك فإن الكثير من الناس يُوصِد أبواب عقله وقلبه، ويغلق نوافذ آذانه أمام تعاليم الحق سبحانه المُنَظِِّمة لهذه الحياة.. وقد نتج عن ذلك ظهور الكثير من المشكلات التي عجزت القوانين الوضعية أن تجد لها حلا بمنأى عن توجيهات الرسالات السماوية ، وما ظاهرة الانتحار والجنون في عالمنا اليوم إلا تفعيل واقع بعيد عن جذور العقيدة الصالحة. إن الناظر المدقق في تلك المشكلات العالمية يلاحظ أنها ناجمة بسبب البعد عن المنهج الإلهي، وعن المعايير الدينية المنظمة للفكر والسلوك والتربية، والتي من شأنها -لو طبقت- أن تحقق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة. إن الإسلام هو الدين الخاتم الذي جاء ليتمم الرسالات السماوية.. جاء متمما ومصححا لمسار الإنسان في هذه الدنيا؛ ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ويوجههم إلى طريق الله تعالى الذي خلقنا ورزقنا وميزنا بالعقل وإرسال الرسل. ومن ثم كان التكليف الإلهي للإنسان الذي يتبعه الحساب، إما نعيم مقيم ، أو عذاب أليم. ليعلم العالم كله أن الإسلام دين يقبل الآخر، ويحترم الأديان والحضارات والرسل السابقين، وجوهر رسالته التواصل مع الآخر. وخلافا لما نراه في هذا العالم ممن يفتعل الحوار ولكن بمفهومه وهو نفسه يؤمن بالرأي الواحد والتوجه الواحد فأين منطق الحوار. بل إن الإسلام جعل الإيمان بالرسل السابقين ركنا من أركان الإيمان لدى المسلمين.. وأنه دين لا يجبر أو يكره أحدا على أتباعه؛ بل يدعو إليه بالعقل الذي هو مناط التكليف، وبالمنطق، مصداقا لقوله تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)[ البقرة: 256] وهو دين يحث على الخير والفضيلة والتسامح والرحمة، ويحترم العلم ويقدر العلماء، ويدعو إلى التفكر والتدبر في ملكوت الله.. ويكفي للإسلام تدقيقا عندما أقر مبدأ الشورى كمنطق منظم لعلاقات الناس على أساس احترام آرائهم وأفكارهم، قال تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: 38) وقال مخاطبا نبيه محمد : (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (آل عمران: 159). بل اعتبر القرآن أن الذين يحجرون عقولهم ولا ينفتحون على الرأي الآخر، ويغلقون نوافذ عقولهم وقلوبهم، بل شبههم بالأنعام يقول الله تعالى: (... لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [الأعراف: 179].. وتفعيلا لعالمية الإسلام، جعل الله تعاليمه سهلة ميسرة تناسب الإنسان أي إنسان في كل وقت وفي كل حين، قال تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج: 78] وهو دين النظافة والطهارة والحرية.. حرية المعتقد وحرية الفكر وحرية الرأي والتعبير... وهو دين يكرم المرأة ويجعل لها مكانة رفيعة في المجتمع.. فهي أم وأخت وزوجة وبنت.. وهو دين يراعي حقوق الإنسان أي إنسان -بغض النظر عن إغفال بعض المسلمين تطبيق تلك المبادئ- بل هو الدين الذي يدعو إلى الرحمة والرفق بمكونات الطبيعة والكون من إنسان وحيوان ونبات وحتى الجماد.. ورسالته الوسطية، يقول الله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا)، ورسالته أيضا تقوم على احترام العقل، ومخاطبة الوجدان، والموازنة بين متطلبات الروح والجسد، وتقوم كذلك على الاعتراف بالفضل لمن هو أهله.. قال تعالى في حق المسيح عليه السلام وأتباعه: (..وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)(المائدة: 82-84) فأصحاب العقائد السماوية رسالتهم التعاطف والتراحم والتآخي وخدمة الإنسان وكل ما يدب على الأرض، إذ الله موجود في كل مكان، ومنه كل شيء ، وإليه يعود كل شيء.. السيدة مريم في الإسلام: تتمتع السيدة مريم البتول العذراء في الإسلام بمكانة سامقة ورفيعة وشامخة، وقد شرفها الله تعالى، بهذه المكانة وأعلى قدرها، باعتبارها سيدة اصطفاها الله لتكون أما للسيد المسيح عليه السلام. وقد أحاطها الله بعنايته الخاصة، وأنبتها نباتا حسنا.. ونشأت عابدة ذاكرة ، يقول الله تعالى: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً) (آل عمران: 37) ، وقال تعالى: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ) (آل عمران: 42). وإقرارا لمكانتها، وتعظيما لفضلها أكثر الله ذكرها في كتاب المسلمين المقدس (القرآن الكريم) حيث ورد ذكرها صراحة أربعا وثلاثين مرة. بل إن الله لم يذكر اسم امرأة في القرآن صراحة إلا السيدة مريم عليها السلام. وقد خصص لها سورة كاملة في القرآن سميت باسمها، تقديرا لها وتخليدا لذكرها.. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على صدق سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) إذ لو كان القرآن من عنده لتحدث عن والدته وعماته وخالاته وزوجاته وبناته.. وخصص لهن سورا بأسمائهن. وقد دافع الله عنها في القرآن وبرأها من أي تهمة يريد الأعداء أن يلصقونها بها، فهي العفيفة الشريفة الطاهرة النقية التقية القانتة، يقول تعالى: (وَمرْيم ابْنت عِمران التِيْ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيْهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنْ الْقَانِتِينَ ) (التحريم 12 ). وقد أكرمها الله بمزيد من الكرامات، منها إنطاق الله تعالى لابنها المسيح وهو في المهد مدافعا عنها، من اتهام الأعداء، قال تعالى: ( فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نَُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي المَهْدِ صَبِيَّا، قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيَّا ) (مريم: 30) . وقد حفلت السنة الشريفة أيضا بذكرها العاطر، تأكيدا على فضلها ومكانتها في الإسلام، حيث قال النبي محمد (عليه السلام): (كَمُلَ من الرجال كثير ولم تَكْمُل من النساء إلا مريم ابنة عمران، وآسية امرأة فرعون ) (رواه البخاري ومسلم ). وقال الرسول (صلى الله عليه وسلم) أيضا: (خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران ، و خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ، وآسية امرأة فرعون) (صحيح الجامع). * * * * عضو اتحاد كُتَّاب مصر