طرحت الثورات العربية موضوعا كان مُحرَّما، ليس في العصر الحديث فحسب، وإنما في التاريخ العربي بأسْره، وهو محاكمة الرؤساء (أو الملوك). كان مجرّد التفكير في الإطاحة بهِم، يُعتبر جريمة ثقيلة يُعاقب المرْء على تصوّرها في الخيال، بالسجن عشرات السنين، إن لم ينل الإعدام. أما اليوم، فباتت الساحات والشوارع والقُرى تعُجُّ بالمظاهرات والاعتصامات، للمطالبة بتنحِية الرؤساء وملاحقتهم قضائيا. وأتى مُثول الرئيس المصري المخلوع محمد حسني مبارك ونجليْه، جمال وعلاء، أمام المحكمة مؤخَّرا، ليُكرِّس نُقطة فارقة في تاريخ العرب، وربما العالم، وقبله حوكِم زين العابدين بن علي في تونس.. ولكن غيابيا. من هُنا، تبدو العلاقة مُركبة ومُعقَّدة بين السياسي والقانوني، وحاولت الدكتورة منى كريّم الدريدي، التي تُعتبر رائدة هذا التخصّص الدقيق في القانون الجزائي، أن تُميز الخيط الأبيض من الأسود في العلاقة المُخاتلة بين السياسة والقانون من خلال دفاعها عن أطروحتها الجامعية بامتياز في سنة 2005، إلا أن طبيعة هذا الموضوع المُحرّم جعلت الناس يتحاشوْن الخوْض فيه في الماضي، باعتباره أخطر من الكُفر، إلى أن أطلقت الثورات العربية الألسِنة من عِقالها. في ضوء محاكمتَيْ مبارك وبن علي، تقرأ لنا الدكتورة منى في هذا الحوار الخاص آليات محاكمات الرؤساء وحدودها القانونية والسياسية على السواء، بأسلوبها السهل الممتنع. swissinfo.ch: هل أن محاكمات الرؤساء سياسة أم قانون؟ د. منى كريّم الدريدي: تكتسي مسؤولية رئيس الدولة دائما طابَعا سياسيا، حتى في الظروف العادية، بسبب طبيعة منصبه ونوعية الهيئة المكلفة بمحاكمته. فهي لا تتألف من قُضاة فقط، وهذا يعني أنها ذات طابع سياسي. أما الجرائم، فلا يُحدِّد القانون الجنائي مضمونها، وإنما يغلُب عليها الطابَع السياسي أيضا. مثلا، بالنسبة لجريمة الخيانة العُظمى، نلاحظ أن الدستور في التجربة التونسية، لم يُحدِّد مسؤولية لرئيس الدولة، وإنما منحه حصانة مُطلقة لا تشمل الأعمال التي قام بها خلال أدائه لمهامِّه وحسب، وإنما حتى قبل وصوله إلى سُدّة الحُكم، وتستمر تلك الحصانة بعد خروجه من السلطة، ما يجعل اضطلاعه بالمنصب لا تترتب عليه أية مسؤولية قانونية. باختصار يمكن القول أن غياب تعريف الجرائم بشكل دقيق، هو الذي يجعل المسؤولية تكتسي طابعا سياسيا. لكن، هذه المسؤولية طُرحت في التعديل الذي أدخِل على الدستور خلال استفتاء 2002؟ د. منى كريّم الدريدي: لم تُطرح تماما، سواء قبل 2002 أم بعدها. ما نلاحظه، هو غياب تام للمسؤولية في الدستور التونسي، قبل ذلك الإستفتاء وبعده. بالمقابل، طُرح هذا الأمر في مشروع دستور 1958 الذي ذكر حالة اقتراف رئيس الدولة لبعض الجرائم، إلا أنه قُبر في المداولات ولم يُبصِر النور بعد ذلك. لكن إذا ما جاز ربما تبرير التقصي من المسؤولية للرئيس الأول الحبيب بورقيبة، فهو غير جائز لخلَفه زين العابدين بن علي. تقصدين من زاوية سياسية؟ د. منى كريّم الدريدي: طبعا، ولذلك نلاحظ أن هناك انعِداما للمسؤولية في كل الأنظمة السياسية. فتحميل المسؤولية لرؤساء الدول، تكون عادة استثناءً وتأتي في صيغة "إلا إذا قام..". أليست هذه "ثغْرة" يمكن الإنطلاق منها للقيام بالمحاسبة؟ د. منى كريّم الدريدي: الاستثناء هنا يكتسي طابَعا سياسيا، إذ لا ينُص عليه قانون، وإنما يُعرف من خلال وسيلة المحاسبة، وهي البرلمان (والبرلمانات هيئات سياسية) ومن خلال العقوبة، وهي العزل من المنصب، أي أن ما تتَّسم به هذه المحاسبة، هو كونها سياسية، سواء في الظروف العادية أم في ظروف استثنائية، مثل الانقلابات أو الثورات. كيف يُمكن أن لا تتَّسم بطابَع سياسي؟ د. منى كريّم الدريدي: يجب احترام الإجراءات المُتَّبعة في مُقاضاة الأشخاص الماديِّين، حتى إن كانت طبيعة الوظائف الموكلة للمتَّهم من شأنها تعقيد المسؤولية. فاحترام الإجراءات العادية، ومنها ضمان حقوق الدفاع، وكذلك طبيعة الهيكل المكلف بالمحاكمة ونوعية الأحكام، كلها عناصر تجعلنا نتفادى أن تكون المحاكمة انتقامية، ولابد من الحذَر، خاصة من التسرّع، سواء في الإتهام أم في إصدار الأحكام. لكن، مثل هذه المحاكمات مرتبِطة في غالبية الأحيان بمطالبات شعبية مُلحّة؟ د. منى كريّم الدريدي: التسرّع ليس حلاّ، بل يجب تفادِيه، لأنه يمكن أن يُعتَبر انتقاما ويؤدّي إلى عدم احترام الإجراءات. ماذا يمكن أن ينجرّ عن الطَّعن في الإجراءات؟ د. منى كريّم الدريدي: قد يؤدّي طعْن المتَّهم أو الرأي العام الدولي في الإجراءات، إلى رفض تسليمه عندما يكون مُقيما خارج البلد. هل يمكن القول أن السعودية لم تُسلِّم بن علي لهذه الأسباب؟ د. منى كريّم الدريدي: لا يوجد تسرّع في محاكمة بن علي، لأن الجرائم واضحة ومحامو الدِّفاع طلبوا التأجيل، لكننا نعلَم من الناحية الواقعية، أن ترحيله صعب بالإعتماد على الوسائل القانونية. هل يُوفِّر الدستور المصري مرتَكزات أفضل لمحاسبة رئيس الدولة؟ د. منى كريّم الدريدي: يُقرّ الدستور المصري بمسؤولية رئيس الدولة في حالة الخيانة العظمى، على خلاف الدستور التونسي، الذي يُعتبر الوحيد في العالم، الذي يمنح حصانة تامة لرئيس الدولة، ولذا، لو عقدنا مقارنة بين الدستوريْن، لاتَّضح لنا، أولاً، أن المسؤولية مذكورة في الدستور المصري، وثانيا، أن حسني مبارك موجود داخل مصر، بينما بن علي لاجئ خارج تونس، مما يُعقِّد الإجراءات، لأن قرار تسليمه، هو قرار سِيادي يخضع لإرادة السلطات السعودية، والمفاوضات السياسية هي وحدها التي يمكن أن تُفضي إلى تسليمه لتونس. لكن السعودية غير مُجبَرة، من وجهة النظر القانونية، على تسليمه، لأن اتِّفاق التعاون القضائي الذي تم التوقيع عليه في الرياض سنة 1985، تم التصديق عليه من قِبل السلطات التونسية، ولم تُصادِق عليه السلطات السعودية. تعرّضت الدساتير في البلدان الديمقراطية لمسؤولية الرؤساء، ماذا أقر الدستور الفرنسي على سبيل المثال والمقارنة؟ د. منى كريّم الدريدي: أقر دستور 1959 الفرنسي، جريمة الخيانة العظمى، لكن جرت مراجعتها في 2007 فحُذِفت تماما. وقرر المجلس الدستوري لدى مصادقته على معاهدة روما، الخاصة بالمحكمة الجنائية الدولية في عهد جاك شيراك، أن الرئيس لا يُحاكَم أثناء فترته الرئاسية، مما يعني أنه جرى تمتيع رئيس الدولة بحصانة وقتية، تشمل الأفعال التي لها علاقة بالمهام الرئاسية وكذلك الخارجة عن المهام الرئاسية، والمقصود بذلك، المهام التي قام بها شيراك على رأس بلدية باريس. فالحصانة وقتية إذن، غير أن الدستور التونسي لم يُقِر ذلك بصورة صريحة. فهو لم يُبيِّن الأفعال التي يمكِن مساءلة رئيس الدولة عنها، والمشكل هنا، أن كل عمل يقوم به رئيس الدولة أثناء الفترة الرئاسية، يمكن أن يُعتَبر متَّصلا بالمهام الرئاسية. في ليبيا، كيف يمكن ملاحقة الرئيس، بينما ليس هناك رئيس في النظام الجماهيري؟ د. منى كريّم الدريدي: ليبيا حالة خاصة من هذه الزاوية، لعدم وجود دستور أصلا. فالمرجعية القانونية لمساءلة العقيد معمر القذافي منعدِمة تماما، وهنا يبقى المنفَذ الوحيد هو المحكمة الجنائية الدولية. أما في داخل ليبيا، فالمحاكمة غير ممكنة، إلا إذا حوكِم كمواطن عادي. لكن القذافي هو عمليا رئيس الدولة؟ د. منى كريّم الدريدي: صحيح، يُعتبر فعليا رئيس الدولة منذ 1969 ويمكن أن يُحاسَب بهذه الصفة، لكن لا شيء قانونيا يسمح بمحاكمته، إلا عندما يُغادر السلطة ويُصبح مواطنا عاديا، أما الآن، فلا يمكن محاكمته في ليبيا. من هنا يبدو أمامنا خيارين لا ثالث لهما، فإما مثوله أمام المحكمة كمواطن بعد مغادرته للسلطة بأي شكل من الأشكال أو مثوله أمام المحكمة الجنائية الدولية. ولابد هنا من توضيح أن ليبيا لم تُصادِق على معاهدة روما لإحداث تلك المحكمة، وبالتالي، فالمحاكمة غير ممكنة من هذه الزاوية. مع ذلك يوجد منفذ أو معبَر قانوني، يتمثَّل إما في إمكانية أن يُطلق المدّعي العام لدى المحكمة الجنائية الدولية بطاقة اعتقال دولية في حقّ القذافي أو أن يعتبر مجلس الأمن الدولي أن الجرائم التي اقترفها القذافي تُهدِّد الأمن والسلم الدولييْن. ففي الحالة الأولى، هناك حدود للجوء إلى بطاقة الاعتقال، لأنها تتوقَّف على تسليم القذافي من قِبل السلطات الليبية. وقد صدرت حتى الآن ثلاث بطاقات، واحدة ضده والثانية ضد نجله سيف الإسلام والثالثة ضدّ مدير الاستخبارات عبد الله السنوسي. أما الحدود في السيناريو الثاني، فتتعلق بشرط توفر الإجماع في أي قرار قد يتخذه مجلس الأمن من أجل اعتبار جرائم القذافي تشكل تهديدا للأمن والسلام الدولييْن، إذ لا مجال لاستخدام حقّ النقض في هذا الصدد. ما تعليقك على تأثير السياسة على القانون في هذه المسائل الكبرى؟ د. منى كريّم الدريدي: تحديد مسؤولية رئيس الدولة، مرتبط بالظروف السياسية، إن كانت ملائمة أم لا. ففي العلاقات الدولية، لا يكفي القانون وحده، لأن مصالح القوى العُظمى قد تطغى أحيانا. فعندما شعرت الولاياتالمتحدة مثلاً أن مصالِحها مُهدّدة، سارعت إلى إطلاق مسار المحاكمة في حقّ الرئيس السوداني عمر البشير أو الرئيس الصربي ميلوسيفيتش أو معمر القذافي. وفي حالات أخرى، عندما لا يكون الرِّهان كبيرا، تتجاهل الأمر أو تغُضّ الطَّرف عن المسؤول عن الجرائم. فمثلا تونس، لا تشكل رِهانا كبيرا للدول العظمى، ولذلك، لا نرى ضغوطا دولية على السعودية لترحيل بن علي وتسليمه للمحكمة، خاصة أنه خدَم تلك القوى الكُبرى لدى فترة حكمه. المصدر: سويس انفو