يعتريني شعور بالألم والحزن أن رجلا من طراز المهندس حمادي الجبالي لا يعرف طريقه إلى نور الشمس إلا اليوم، ويعتريني ألم أن رجالا من أمثال الأستاذ الفاضل والشيخ الوقور حبيب اللوز، والدكتور أحمد لبيض وعبد الكريم الهاروني والعجمي الوريمي ومحمد عبو، أسطورة المحامين وغيرهم من مئات رجالات تونس مازالوا يقبعون إلى اليوم وراء القضبان. أزمة تونس أعمق من أن تكون أزمة سلطة وحكم، حيث إنها تكمن أيضا في تقديرات خاطئة لمن قاد مرحلة من النضال السياسي في حقبة ما من تاريخ بلدنا المعاصر، ولا شك أن المراجعة مطلوبة من الجميع، ومن تعالى عن تقويم نفسه وذاته فهو مكابر. مفاصل الأزمة التي مازالت تلقي بظلالها على تونس والتونسيين وقطعا ستضع بصماتها على مستقبل القادم من الأجيال، تتحملها بالدرجة الأولى سلطة أرادت أن تحتكر الحكم وتحكم بمنطق إعدام الرأي المخالف وتغييب أصحابه وراء القضبان، أو بنفيهم إلى أقاصي البلدان أو باستضعافهم داخل أقفاص أحزابهم وإيديولوجياتهم ضمن منطق يسير وفق سياسة فرق تسد. ولكن وقفة شجاعة مع النفس، ينبغي أن تقودنا إلى الاعتراف بأن الإسلاميين التونسيين أخطئوا يوم أن أغرتهم انتصارات جبهة الإنقاذ الجزائرية، وفلتة تاريخية سانحة لجماعة الشيخ الترابي السودانية، فكان أن تدحرجت الأمور في تونس إلى منعرج سياسي خطير لازالت تدفع ضريبته إلى اليوم. ولئن كانت النهضة يوما ما قادرة على اتخاذ قرار شجاع بإيقاف هذا الانحدار منذ أواسط التسعينيات انطلاقا من قناعات راسخة بالخطأ والارتباك الحاصل في مؤسساتها القيادية منذ 1990 و1991، فإن هذا القرار الشجاع ينبغي أن يتبلور اليوم عبر عمل سياسي يقوده رجال من داخل تونس ويشهد لهم الوسط السياسي بالمرونة والكياسة والاعتدال. ولعل الأزمة أيضا تتحملها أيضا وبدرجة ثانية، ولكنها لا تقل خطورة بعض أطياف المعارضة اليسارية والعلمانية الليبرالية يوم أن اختارت التخندق مع أعداء التيار الإسلامي في تحالف رهيب بين أجهزة الأمن وأجهزة النخبة، فكان أن وقعت الخطيئة الكبرى بتحول رجل الشرطة إلى قيم على قلاع العلم والمعرفة والثقافة والفكر. غير أن البعض لم يستفق من غفوته السياسية إلا بعد أن أكل السجن العظام وتمكن السرطان من جسم زياد الدولاتي. اليوم نقف أمام عتبة سياسية جديدة، لابد أن نمتلك فيها جميعا الشجاعة بإيقاف هذا النزيف الدامي من جسم تونس، وعندها يكون واضحا ومشروطا إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين وتحسين ظروف إقامة سجناء الحق العام وإعادة تأهيلهم مهنيا وعلميا ونفسيا واجتماعيا، وإخضاع سجوننا لمراقبة المنظمات الحقوقية التونسية وكذلك إلى لجان الصليب الأحمر الدولي وغيرها من المنظمات الحقوقية المتخصصة، ولا يكفي هذا، بل لابد على السلطة أن تمتلك الشجاعة بإغلاق هذا الملف نهائيا، على أن تنطلق الجهود بعيد ذلك إلى غلق الملف من زواياه القانونية والحقوقية، وذلك بالتنادي إلى تأسيس لجنة وطنية من أجل الإنصاف والحقيقة، تتوج مسارها بعمل قانوني لابد أن يكون عفوا تشريعيا عاما يعيد بعض الحقوق إلى أصحابها، ويقدم اعتذارا معنويا وسياسيا إلى ضحايا حقبة سنوات الظلم، ويأذن بعزل وإدانة معنوية تاريخية دون محاكمة قضائية للمتورطين في جرائم التعذيب البشعة. أما المعارضة اليوم، فإنها مطالبة بممارسة خطاب مسئول وواعي يبتعد عن التشنج والمغامرات ومنطق استعراض القوة الذي جرب في بداية التسعينات، ولم يجلب إلى البلد إلا الويلات، ولاشك أن حركة النهضة معنية بهذا الأمر، ويبقى على عاتق وجوه مثل المهندس حمادي الجبالي وعلى العريض ونور الدين البحيري وسمير ديلو وعبد الله الزواري والمهندس الهادي التريكي والبروفوسير المنصف بن سالم وغيرهم، استلام زمام المبادرة من قيادة المهجر والانتقال بالنهضة إلى الفعل الهادئ، والمسئول والرصين والبعيد عن المغامرة في تعاون مشترك مع السلطة الحاكمة والمعارضة المسئولة من أجل الخروج بالبلد من هذا النسق السياسي المظلم. وبحكم معرفة سابقة عبر حديث هاتفي مطول مع الأساتذة حمادي الجبالي والبحيري والزواري والمهندس التريكي، ومن خلال لقاءات مباشرة مع السادة سمير ديلو والد منصف بن سالم، وكذا متابعتي لتصريحات سابقة للسيد على العريض إثر خروجه من السجن، يمكن القول إن الحس المسئول لهؤلاء والوعي المتقدم الذي أبانوا عنه على ضوء ما صقلته تجربة السجون، يدعوهم اليوم إلى لعب دور في غاية من الخطورة والحساسية والمسؤولية، فقد آن الأوان لمثل هذه النخبة القيادية والوطنية كي تنتقل بالقرار النهضوي إلى أرضيته الحقيقية، لتعيد له الاعتبار داخل التراب الوطني من أجل أن يلامس بدقة كل تجليات الوضع السياسي الداخلي. ولعلني أعود مرة أخرى إلى شخص المهندس حمادي الجبالي، فأذكر وألح بأن الدور المطلوب منه هو فعلا ما أدلى به في تصريحات قبل يومين في حوار هاتفي أجريته معه، من فتح قنوات الاتصال مع السلطة الحاكمة ومع القوى الراشدة في المعارضات الوطنية لإنقاذ الوضع السياسي وإخراجه من دائرة التحدي والتحدي المضاد الذي لن نربح من ورائه جميعا إلا مزيدا من النفوذ الأجنبي والتدخل الخطير في أوضاعنا الداخلية. وفي انتظار أن يحدث هذا، وفي انتظار أن تستوعب السلطة مخاطر الاعتقال السياسي والاحتقان الداخلي في ظل أوضاع دولية متداخلة وشديدة الحساسية، وعلى أمل أن تمارس المعارضة دورا وطنيا مسئولا وجادا لا يستبعد الحوار المباشر مع دوائر القرار من أجل صالح تونس وشعبها، يبقى جميع التونسيين مشدودين بأفئدتهم وأعناقهم إلى شاشات الفضائيات المستقلة وإلى شاشات الحواسيب والانترنيت، على أمل أن تحمل لنا الأيام القادمة مزيدا من الأخبار السارة والإجراءات والقرارات التي تعيد تونس إلى مربع السبق السياسي في المنطقة العربية والإفريقية المصدر : العصر