تأبي الأهرام صحيفة ومؤسسة عريقة إلا أن تحط من قدرها وقيمتها وتاريخها عبر سلسلة متتالية من السقطات. من الصورة التعبيرية لمبارك، متقدما قادة أمريكا، والأردن، وإسرائيل، والسلطة الفلسطينية، إلى تحريف مقال للصحفي ديفيد كيرك باتريكس المنشور في "نيويرك تايمز"، لجعله يشيد بالسيسي خلال خطابه بالأمم المتحدة على غير حقيقة ما هو مكتوب، وفي خلال تلك السنوات القليلة التي تقع بينهما هاتين السقطتين، هناك العديد من الأخطاء والتجاوزات المهنية التي تهبط بالأهرام، وتخّفض من قامتها التي يجب أن تعتدل وتظل سامقة. وماتفعله الأهرام هو من صنع القائمين عليها، لمزيد من التقرب، أو التزلف للحاكم، فلا أظن أن مبارك اشتكى من ترتيبه في الصورة الذي جاء خلف أوباما صاحب البلد والدعوة والضيافة، ولا أظن أن وجوده في هذا المكان بالصورة يقلل من دور مصر، حتى لو كان تراجع ، كما لا أظن أن السيسي طلب من الأهرام أن تحرف المقال لصالحه، ولا أظن أن كتابة مقال في صحيفة أمريكية ينتقده سيجعل الجمهور الداعم له ينقلب عليه، فهناك مقالات في الصحف الأمريكية والغربية لا تتوقف عن نقد نظامه. نصل إلى صلب هذا المقال، وهو التضليل والخداع الذي مارسته الأهرام على قرائها في عدد الثلاثاء 11 نوفمبر الجاري، بما نشرته على صفحتها الثالثة، وهي تسمى في عرف المهنة الصفحة الأولى مكرر، أي أهم صفحة بعد الصفحة الأولى، وتُنشر عليها الأخبار المهمة التي لم تجد لها مكانا على الصفحة الأولى. على تلك الصفحة، وأسفل الخبر الرئيسي، وعلى عرض 5 أعمدة، وبارتفاع أكثر من نصف الصفحة، أي فيما يقرب من ثلث صفحة، أو يزيد، نشرت الأهرام مادة تحت عنوان "8 ملايين مصري يستفيدون من مشاريع الإمارات"، مع صورة عرضية، وأسفلها تعليق يقول: "الجابر في حفل تخرج المتدربين بأحد المشروعات الإماراتية"، وواضح أنه شخص إماراتي، والمتدربون مصريون. المشكلة هنا، أن هذا ليس خبرا صحفيا، بل هو إعلان واضح وضوح الشمس. والمشكلة الثانية، هو عدم تمييز ذلك الخبر الدعائي الطويل بوضعه كما هو معتاد مهنيا في برواز، ومكتوب في أعلاه عبارة، "إعلان تحريري"، للتمييز بينه، وبين الخبر الصحفي. هذا التمييز المفقود ليس أمرا غائبا عن الأهرام، فهي تعرفه حتما، ويُفترض أن تكون قد نفذته كثيرا مع إعلانات تحريرية تبدأ بمساحات صغيرة، ولا تنتهي بصفحة كاملة، بل تمتد لصفحات، وقد تصل لملاحق كاملة داخل العدد، أو مرفقة معه. الفصل بين الإعلان التحريري، والخبر الصحفي هو عمل مهني أصيل وضروري، وهو واجب أخلاقي، وتتساوى في ذلك جريدة كبيرة مثل الأهرام، وأخرى صغيرة توزع عدة مئات من النسخ، بل إذا انتهكت الجريدة الصغيرة الخط الفاصل بين الإعلان، والخبر، فلا يجب أن تفعل الأهرام ذلك مطلقا، مهما كانت المغريات المالية. ذلك الإعلان التحريري شوه الصفحة الثالثة للجريدة، وشوه قيم المهنة وقواعدها و أخلاقياتها، فكيف تسمح الأهرام بذلك، ولماذا تتعمد الهبوط بمستواها المهني، وتقدم النموذج السيء للصحف الأخرى، وبسبب ذلك لم تعد الأهرام كما كانت، بل تفوقت عليها صحف حديثة العهد مهنة ومضمونا ومتابعة ويقظة ودأبا وإنفرادا وسبقا ، فأنا اليوم قليلا ما أذهب لبوابة الأهرام، أو موقعها، وكثيرا ما أذهب لبوابات ومواقع صحف خاصة حتى لو كان لي ملاحظات على الأداء المهني لها خصوصا في التغطيات المتعلقة بالأوضاع والصراعات السياسية. هذا الذي أكتبه من أجل المهنة، والأهرام، ولتبصير القارئ البسيط الذي لن ينتبه لذلك التضليل، والتزييف للوعي. نذهب إلى جانب آخر، وهو المتعلق بالإمارات ومشروعاتها التي يستفيد منها 8 ملايين مصري، واعتقد أن الرقم مبالغ جدا فيه، وهو يستند إلى جملة من سيستفيد من مشروعات مازالت حبرا على ورق، أو تصريحات صحفية، وحتى لو تم تنفيذها، فلن يصل المستفيدون إلى هذا الرقم أبدا، ومهما كان المبلغ المدفوع في إعلان كهذا، فلا يجب مواصلة اللعب بعواطف وأحلام المصريين بمشروعات على صفحات الصحف فقط، ولم تنزل لأرض الواقع بعد. وألاحظ أن هناك حضورا إماراتيا في الإعلام المصري، وهذا مريب وغير طبيعي، فهل هناك تمويل خفي للإعلام كما يتردد، أم ماذا يحدث بالضبط ، ولصالح من ؟، فهناك سباق بين الصحف والفضائيات في نشر أخبار الإمارات مهما كانت عديمة الجدوى، ومهما كانت طبيعة العلاقات بين النظام في البلدين، وحالة "الوله" بينهما، فليس منطقيا، ولا كريما لمصر، أن تتحول كما لو كانت الإمارات هي من تنافح عنها في كل محفل عربي، أو دولي، والأمثلة عديدة، مصر قادرة على الدفاع عن نفسها، ولا تنتظر مسؤول إماراتي يتصدى لقضايا خاصة بها، والإمارات لديها قضاياها، فلماذا لاتنشغل بها؟. لا حظوا أن الحضور السعودي في الإعلام المصري ليس بحجم الحضور الإماراتي، ولا حظوا أن تصدي مسؤولين سعوديين للدفاع عن كل صغيرة وكبيرة تتعلق بالسلطة في مصر ليس كما يفعل الإماراتيون، وهذا ذكاء من السعودية التي لاتريد أن تنصب من نفسها وصيا على مصر، أو كفيلا لها، كما تفعل الإمارات، والسعودية تدعم السلطة، وربما أكثر وأعمق مما تفعل الإمارات، لكنها لاتحب أن تظهر في الصورة بشكل طاغ كما الإمارات. لست ضد أن تقيم مصر علاقاتها على أساس مصالحها، ولست ضد مساعدات الإمارات، أوغيرها لمصر، ولا أحمل أي ضغينة لأي بلد، أو شعب عربي، لكن يجب أن تكون العلاقات في إطار الندية والاحترام المتبادل، وعدم التدخل الفج في كل صغيرة وكبيرة. قطر ساعدت مصر، دون دعاية فجة، ودون فرض نفسها، وهي مساعدات كانت لمصر، ولم تكن لمرسي، ولا للإخوان، وهي مساعدات بدأت مع حكم المجلس العسكري، ولم تبدأ مع حكم مرسي، وظلت حتى بعد عزل مرسي ، وبالعكس فالإمارات لم تساعد مصر في عهد المجلس العسكري، ولم تفعل ذلك في عهد مرسي، وبدأت مساعداتها فقط بعد عزل مرسي، وهذا تفسيره الوحيد أنها لاتساعد مصر اليوم كدولة، إنما تساعد مصر التي يحكمها النظام الحالي الذي تستريح له. يُحسب للسعودية أنها قدمت مساعدات لمصر، كما قطر، في عهد المجلس العسكري. أنا كمواطن مصري صرت لا استسيغ هذا الظهور الإماراتي الكثيف في الشأن المصري، وعلى النظام أن ينتبه لذلك، ويطلب التخفيف من هذا السلوك. مصر يجب أن تظل كبيرة، عظيمة، راسخة، رافعة رأسها، ولا يمن عليها أحد، ومصر لن تُبنى بالمساعدات من هذا البلد، أو ذاك، فهي مجرد مسكنات، إنما ستُبنى بسواعد أبنائها وبمواردها، وبخيراتها الكثيرة، وبتصالحها، ووحدتها الداخلية، وتكاتفها الوطني. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.