في مفاجأة مؤسفة أصدرت الخارجية المصرية أمس بيانا فيما يتعلق بتطورات الأوضاع في ليبيا ، تجاهلت فيه أحكام المحكمة الدستورية العليا التي قضت بحل "برلمان طبرق" لأن القانون الذي تشكل على أساسه وأجريت الانتخابات وفقه غير دستوري ، وقال بيان الخارجية المصرية أن مصر تؤكد (احترامها التام لإرادة الشعب الليبي التي تجسَّدت في الانتخابات الأخيرة) ، كما أضاف البيان أن مصر تؤكد (دعمها التام للحكومة الليبية في جهودها للاضطلاع بمسؤولياتها في الحفاظ على وحدة الأراضي الليبية وسلامتها الإقليمية، وتحقيق تطلعات الشعب الليبي في بناء نظام ديمقراطي حقيقي) ، وبطبيعة الحال كان حكم حل البرلمان الليبي يبطل كل ما تمخض عنه من أعمال أو قرارات ، كما يسقط بداهة الحكومة التي شكلها ، ولا أدري عن أي حكومة يتحدث البيان المصري ، وهذه "الآمال" العريضة في الاضطلاع بالمسؤوليات للحفاظ على وحدة الأراضي الليبية ، لمن يوجه بيان الخارجية هذا الخطاب ، هل يوجهه إلى حكومة منعدمة وباطلة دستوريا ، والأعجب أن يتحدث البيان عن "تطلعات الشعب الليبي في بناء نظام ديمقراطي حقيقي" ، فإذا كانت أحكام القضاء تداس بأقدام ميليشيات خليفة حفتر ، وقضاء المحكمة الدستورية يعتبر لهوا فارغا لا قيمة له ، فعن أي ديمقراطية تتحدث ، بل عن أي دولة ، ثم ما دخلك أنت في نزاع قانوني ودستوري بين القوى الليبية ، كيف سمحت لنفسك أن تكون وصيا على القرار الليبي ، والحقيقة أن مثل هذه "المواعظ" كان يفترض أن نقدمها لأي جهة أو دولة أخرى باستثناء مصر ، لأن المحكمة الدستورية المصرية أسقطت البرلمان واعتبرته منحلا خمس مرات في العشرين عاما الأخيرة ، منها مرتان في عهد الثورة بعد أن فاز الإسلاميون ، وعندما قرر الرئيس الأسبق محمد مرسي استمرار عمل البرلمان رغم حكم الدستورية قامت الدنيا ولم تقعد ومنع "المجلس العسكري" هذا الموقف وأجبر رئيس الجمهورية على "احترام" حكم الدستورية وأن البرلمان منحل ، واعتبرت محاولة تجاهل حكم المحكمة كارثة كبرى ووصم بها نظام محمد مرسي في الاستدلال على استهانته بالدستور والديمقراطية في أخطر بنياتها ، فهل نبيح لغيرنا ما حرمناه على أنفسنا ، هل المحاكم الدستورية تكون لها الولاية على دستورية القوانين عندنا بينما هي في البلاد الأخرى "تسالي" لا قيمة لها ، وهب أن دولة أخرى غير مصر قالت وقتها أنها لن تتعامل إلا مع البرلمان المصري المنتخب والمعبر عن إرادة الشعب المصري ، كيف يكون رد الفعل وقتها على هذا التدخل المشين . البيان المصري تحدث ، بصوفية عالية ، عن ضرورة استبعاد الخيار العسكري لحل الأزمة في ليبيا ، ودعا "جميع الأطراف" لتحكيم صوت العقل وبدء حوار وطني يشمل "كل الأطراف" للوصول إلى حل ، والبيان لم يوضح بطبيعة الحال من هي الأطراف المقصودة ، لأن السلطات المصرية مع الأسف لا تتعامل ولا تعترف إلا بطرف واحد ، وهو برلمان طبرق المنحل وقوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر ، ولا يوجد أي تواصل أو جسور تفاهم مع "الطرف الآخر" ، وهو ما يجعل بيان الخارجية المصرية مثيرا للسخرية ، ومن يتابع الإعلام الليبي ومواقع التواصل الاجتماعي الليبية لن يخطئ إدراك وجود رأي عام واسع وحاد للغاية ضد مواقف مصر تصل إلى حد اعتبارها "دولة عدو" . المؤسف أيضا ، أن البيان المصري هو الوحيد في العالم كله ، الذي تعجل بالتورط في احتقار أحكام المحكمة الدستورية العليا في ليبيا ، وأهانها ، وتجاهلها ، وقال أنه يتعامل مع البرلمان المنحل وحده ومن يعبر عنه ، العالم كله يتعامل حتى الآن بحذر ويقول أنه يدرس حكم المحكمة وينظر في المآلات ويطالب الليبيين بالبحث عن مخرج سياسي ، العالم كله حذر جدا من الانحياز إلى طرف دون آخر ، وحدها مصر التي أعلنت انحيازها بسرعة رهيبة ، لماذا ؟ ، وهل هذا الانحياز الغريب يتيح لمصر أي دور في ليبيا المستقبل ، أو حتى الحوار بين الأطراف الليبية ، لماذا هذا الاندفاع الخطير في الانغماس في أزمة تتحول تدريجيا إلى ما يشبه الحرب الأهلية ، وهناك أعضاء ببرلمان طبرق يتحدثون عن انفصال إقليم برقة "شرق ليبيا" . أعرف أن الصدمة كانت عنيفة جدا على صانع القرار المصري بعد حكم المحكمة العليا في ليبيا بحل البرلمان ، لأن رهان القاهرة كان كبيرا على هذا البرلمان ، وهو ما حذرت منه مرارا وذكرت تحديدا أن هناك قضية أمام المحكمة قد تنتهي لحل البرلمان أو إبطال جلساته في طبرق وما تمخض عنها ، ولم يستمع أحد ، غير أن الورطة ستتزايد مع الوقت ، عندما تضطر العواصم الكبرى للتعامل بواقعية مع قرار المحكمة ، ومع تزايد الاعتراف الداخلي الليبي بالوضع الجديد ، حيث تتزايد أعداد أعضاء برلمان طبرق الذين أعلنوا احترامهم لحكم المحكمة واعتبار البرلمان منحلا ، وفي آخر التقارير تردد رقم "سبعين عضوا" وهذا يعني أن ثلثي البرلمان تقريبا لم يعد معنيا بما يحدث في طبرق ، فهل ستواصل مصر العناد مع حفنة صغيرة من السياسيين المغامرين المنفيين في طبرق بأقصى الشرق الليبي ، لا يملكون شرعية ولا حضورا ولا أرضا ولا حتى غالبية في البرلمان نفسه بمعايير البرلمان ، أم أن صوت العقل يمكن أن يعود للسياسة المصرية تجاه ليبيا ، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه ، وطرح "الاستعجال" المفسد جانبا ، والعمل وفق رؤى استراتيجية طويلة المدى ، تحمي مصالح مصر وتحمي وحدة التراب الليبي ، وتساهم في تحقيق مصالحة وطنية ليبية تسمح بالاعتدال أن يبسط سلطانه والاستقرار والأمن أن يعودا لربوع الشقيقة المهمة لمصر . مصر أكبر من أن تنخرط في مستنقع ليبي ، مصر دورها كشقيقة كبرى أن ترعى الحوار وتساعد على البناء ، والمؤكد أن حفنة الانقلابيين في طبرق وميليشيات خليفة حفتر لا يمكن أن تكون رهانا استراتيجيا بأي معيار .