بسم الله الرحمان الرحيم بعد زمن التفجير والهدم والتخريب, والإختطاف, والاعتقال والتعذيب, والإغتصاب , والتخويف, والترهيب, أذّن في الجزائر بدخول عهد السلم والمصالحة, والعفو والمسامحة, والتصافح والمصارحة. ودّع الجزائريون- إذن – عصر الدماء والدموع, ومرحلة أحزان الأفراد والجموع, ليستقبلوا الزمن الأخضر الذي صنعوه بالأمل والعمل, ونسجوا خيوطه بالعبارات والقبل. فقد زكى الجزائريون والجزائريات مشروع السلم والمصالحة بنسبة كبيرة من الأصوات, بعدما سئموا سماع صوت النواح أو مشاهدة مواكب دفن الأموات من كل الأعمار والطبقات. واستجابت الحكومة الجزائرية لمطلب الشعب بوجوب الخروج من النفق المظلم, الطويل السنوات, وضرورة طي صفحات الماضي الأسود الحزين, الذي خيّم عليه جو الأنين, والألم الدفين. وأُفرج أخيرا عن القوانين المنظّمة للمصالحة, بوضع سلسلة من الإجراءات المتعلقة بالسجناء, وحملة السلاح, "والتائبين" من العنف الدموي, والمشردين داخل الوطن وخارجه. ولقد تعددت القراءات السياسية للنصوص الواردة في شكل مراسيم رئاسية, دون عرضها على الهيئآت التشريعية كالمجلس الشعبي الوطن, ومجلس الأمة, وهو إجراء استثنائي. كما تباينت المواقف المتخذة من هذه المراسيم. وإن الدارس المدقق لمضامين كل قراءة, لا يجد عناء في استنباط الإتجاه الإيديولوجي المتحكم في كل فئة. فالذين يوصفون – في القاموس السياسي الجزائري- بالاستئصاليين, وهم قوم لا يخفون عداءهم لكل ما ومن هو إسلامي يريدون استئصال شأفتهم, هؤلاء كان موقفهم معاديا لكل تصالح وتسامح, يدفعهم إلى ذلك تيار علماني, لائكي لا يرى الجزائر تتسع لمشروع مجتمعين, هما مجتمع باريس, ومجتمع باديس, ولذلك فقد كانوا "أوفياء" لمرجعيتهم وثقافتهم. وبالمقابل هناك أسر ضحايا المأساة الذين فقدوا أبناءهم, و قد ألقى بهم نحو المجهول ولا يدرون عنهم شيأ, أو فقدوا مناصب شغلهم دون سبب, إلا أن يقولوا " لا ميثاق , لا دستور" أو" الإسلام هو الحل".. أو الذين زج بهم دون محاكمة, في رمضاء الصحراء, دون رد أي اعتبار لهم أو تعويض مادي عما فقدوه. إن ضحايا المأساة هؤلاء يرون في نصوص المصالحة الوطنية, تبييضا لتاريخ, كما تبيّض الأموال المكتسبة من حرام, بمساعدة المشاريع الخيرية. وبين أولئك وهؤلاء تقف الجماهير الشعببة, التي أصيبت في قوتها, وفي أمنها, وفي شغلها, فحرمت نعمة الإستقرار, ونكبت بمحنة الإستدمار؛ إن هذه الجماهير الشعبية بعيدا عن أي حساب أيديولوجي, تريد للجزائريين جميعا على اختلاف ميولهم وقناعاتهم, وإنتماءاتهم أن يعيشوا في كنف السلام والوئام وأن ينبذوا- إلى الأبد- كل عوامل الفرقة والخصام. لئن كان من السابق لأوانه, الحكم على القوانين الرئاسية الصادرة في الجزائر باسم المصالحة والسلم فإن مما يسلم به الجميع هو ما يكتنف بعض هذه القوانين من غموض, فقد هيمنت على المراسيم, عبارات لا تخلوا من ألغاز, فعندما نقرأ في بعض النصوص, أن كل من استغل الدّين استغلالا خاصا, لا يحق له استعادة حقوقه السياسية.. وأن كل من حمل السلاح وثبت أنه قتل, أو أودى بأرواح الأبرياء, لا يشمله قانون المصالحة...إن هذا نوع من الجمل غير المفيدة كما يقول فقهاء اللغة في ثقافتنا. كثيرة - إذن- هي القوانين الصادرة التي تحتاج إلى شرّاح يفقهون كنه القانون ليبينوا لنا ظاهر النص وباطنه... وأيا كانت نوايا فقهاء القانون الذين أخرجوا للناس مراسيم المصالحة هذه, والتي هي في حاجة إلى إزالة الكثير من اللبس, وإضفاء طابع الوضوح عليها, كي يمكن تعامل الجميع معها بالشفافية المطلوبة, فإن مما لا جدال فيها, هو أن جزائر ما بعد الحرب الأهلية, أي جزائر السلم والمصالحة تتشد مناخا تصالحيا, يهيء الجو الكافي لتطبيق النصوص, ويكون صمام الأمان, في عدم تكرار المأساة, باقتلاع الأسباب العميقة التي أدت إلى ما عانته الجزائر من ويلات. ويمكن إسهاما منا في نشر المناخ السلمي, أن نهمس في آذان فقهاء القانون عندنا, والمشرفين على هندسة المشروع التصالحي بالمقترحات التالية: 1- إن كل عملية مصالحة في الجزائر يجب أن تبدأ بالمصالحة مع الذات... وتتمثل المصالحة مع الذات أوّلا في معالجة الروح المريضة في الجسم الجزائري, وما الروح إلا الإسلام. 2- إن من رموز الروح الإسلامية في المجتمع الجزائري, الأذان الذي أخرسته المأساة الجزائرية, وآن الأوان أن يعود باسم المصالحة مع الذات إلى التلفزيون الجزائري أسوة بأشقائه المسلمين, وإنعاشا للعقل الجزائري التواق إلى سماع هذا الآذان. 3- تطهير الإعلام بجميع وسائله من المصطلحات الجارحة, كالإرهابي, والمجرم, والدموي, التي تصف حاملي السلاح, فإن مثل هذه المصطلحات لا تخدم فكرة المصالحة اليوم ولا تسهم في إشاعة روح التسامح في عصر التسامح والتصافح. 4- وضع حد للفرز الإديولوجي في إعطاء المناصب, وتقلّد المسؤوليات, وإتخاذ معايير الكفاءة والوطنية والالتزام بخدمة ثوابت الأمة واعتبارها المعايير الوحيدة لاختيار المسؤولين, أيا كانت قناعاتهم السياسية وانتماءاتهم الإيديولوجية. 5- إعادة المهمشين والمقصيين والمفصولين إلى أعمالهم ووظائفهم, وتعويضهم عما لحقهم من خسائر, ففي ذلك رأب للصدع وخدمة للمصلحة العامة وتحقيق للمصالحة الوطنية 6- بث الوعي الديني الصحيح, وإشاعة النصح الوطني الحقيقي لدى المواطن, وذلك بإعطاء القدوة من المتقلدين لزمام المسؤولية, بضرب المثل في الأمانة, والنزاهة, والعدل, ونكران الذات. إن الطريق المستقيم إلى المصالحة الحقيقية يبدأ من هنا, ويمر من هنا, أي من مصالحة الشعب الجزائري مع حضارته وثقافته وتاريخه وما عدا ذلك, فما هو إلا ضحك على ذقون أفراد الشعب, وتبديد لطاقات وجهود ما تلبث أن تزول آثارها العابرة, وأن نجد أنفسنا من جديد, وجها لوجه مع شبح الظلم, والمحسوبية والانتهازية والوصولية وهي الأسباب التي كانت كامنة في إندلاع العشرية السوداء أو الحمراء ولا نتمنى ان يعيد التاريخ نفسه. [email protected]