رغم الإدانة الحاسمة والقاطعة لكل عمل إرهابي جبان يستهدف جنود مصر الأبرياء على حدودها أو في ربوعها، أو يستهدف مواطنين آمنين فإن غياب "الرؤية الشاملة" لدى نظام 3 يوليو هو العنوان الكبير لما يحدث في مصر منذ ذلك التاريخ، ذلك التاريخ الذي خرجت فيه من مصر من السياسة ووقعت في شراك القبضة الأمنية وعسكرة المجتمع. فما حدث تحضيرا لهذا اليوم لم يكن "خريطة طريق" بقدر ما كان "متاهة". وما حدث في هذا اليوم لم يكن متعلقا بترتيبات المستقبل بقدر ما كان ردة لعصور استبداد زمن ولى وفات، وعودة لنظام الفرد والحاكم نصف الإله. وما حدث بعد هذا اليوم لم يكن استعادة دور مصر بقدر ما كان العمل تلاشيه وذهاب آخر رمق إقليمي من ذلك الدور. ورغم أن تلك العمليات الإرهابية الجبانة قطعت نياط قلوب المصريين جميعاّ على اختلاف أديانهم وعقائدهم، وعلى اختلاف توجهاتهم الفكرية السياسية إلا أن الأمر: أعقد من الإدانة الحاسمة للعنف والارهاب، كإجراء روتيني لتسجيل المواقف. وأعقد من تلك العمليات الفجّة للتحريض على المعارضة السياسية وخصوصا تلك المواجهات المستمرة بين الأجهزة الأمنية والشباب في الجامعات المصرية، جراء تململ الشباب من عودة الدولة الأمنية بكل تداعياتها وآلياتها، وكأنه عملية غسيل مخ ممنهج تنسينا أن قمع دولة العادلي كان السبب المباشر في قيام ثورة 25 يناير، إن لا زال هناك أحد في دولاب الحكم الحالي وأذرعه الاعلامية يعتقد أن ثمة ثورة في مصر قامت تطالب بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية، بعد كل تلك الهجمة الشرسة والممنهجة على رموز ثورة 25 يناير وشعاراتها والذي لا يمكن أن يحدث عفوا دون إذن من أصحاب الأذرع الإعلامية، الذين ربونها على أعينهم. ورغم وحشية تلك العملية الإرهابية الأخيرة التي هي أقرب لعملية عسكرية شاملة مكتملة الأركان من الاعداد والتخطيط والتنفيذ والإسناد والمتابعة للسلوك العسكري المعتاد لجيش المصري، وذلك لإيقاع أكبر عدد ممكن من الضحايا إلا أنها ليست سوى رأس جبل الجليد العائم الذي توشك أن تصطدم به سفينة الوطن التي لم تكن بحاجة إلا إلى رؤية ثاقبة كمخرج لها من أزمتها الحادة والتي تزداد حدة مع مرور الأيام وتشابك المشكلات وتداخل الملفات. ورغم بشاعة تلك العملية الارهابية الأخيرة إلا أنها دلالة عميقة على حاجة مصر الحقيقية إلى خارطة طريق حقيقية تخرجها: من حالة الانقسام المجتمعي. ومن حالة التطاحن الفكري. ومن حالة الاحتراب السياسي. ومن حالة التآكل الذاتي. الدول لا تخرج من وهدتها إلا تحت ظلال حالة من حالات المصالحة الوطنية التي تعمل على إعادة ترتيب الصف الوطني، وترتيب البيت الداخلي لمواجهة الأخطار الداخلية والإقليمية التي تعصف بأغلب دول إقليمنا الملتهب والمتوهج والذي تغلي بلدانه على براميل وليس برميلا واحداً من البارود، حيث توشك اتفاقيات سايكس بيكو على انتهاء صلاحيتها. مر أكثر من عام وأثبت الحل الأمني فشله الذريع. ومر أكثر من عام وأثبت الانقسام المجتمعي تجذره وتغوله على البنية المجتمعية. ومر أكثر من عام وأثبت الصوت الواحد فشله الذريع. مصر الدولة والوطن والسفينة في حاجة إلى "رؤية" مبدعة خلاقة تشكل مخرجا حقيقيا من أزمتها العميقة. القادة الحقيقيون لا يظهرون إلا وقت الأزمة، ومصر الدولة والوطن والسفينة في أزمة حقيقية تحتاج إلى قادة مسئولين على مستوى الحكم والمعارضة. المزايدة ما أسهلها، ونظام الطبلة والمزمار ما أسهله. مصر في حاجة إلى رؤية شاملة تعيد تقييم المرحلة السابقة، وترسم معالم جديدة لمرحلة جديدة، مرحلة لا تقوم إلا على المصالحة الوطنية، وإعلاء صوت الحكمة. مصر في حاجة إلى رؤية شاملة تخرجها من أزمتها العميقة، التي أوصلتها إليها الحلول الأمنية. مصر في حاجة إلى رؤية شاملة تتجاوز بها التعامل السطحي مع رأس جبل الجليد العائم، وتجاوز الكليشهات والحلول المعلبة والنماذج الجاهزة للإجابات التي تجاوزها الزمن. الرؤية هي المخرج والسبيل وهي الحل الجامع المركب الذي يتوافق مع عمق الأزمة وانتشار تداعياتها في جنبات المجتمع. الهروب إلى الأمام لن يجدي فتيلا، لا للحكم ولا للمعارضة. وخلق أعداء وهميين ومحاربة طواحين الهواء لن تحل أزمة مصر العميقة. أزمة مصر تحتاج مواجهة من نوع مختلف، تختلف عن المواجهة الأمنية المعتمدة التي أردتنا جميعا وأوصلتنا للاصطدام بالجدار الصلب. مصر بحاجة إلى رؤية شاملة تقوم على ما أسماه أستاذنا الدكتور سيف الدين عبد الفتاح "ثقافة السفينة". رؤية شاملة تتجاوز بها الدولة المصرية حالة الاحتراب السياسي والانقسام المجتمعي. رؤية شاملة تخرج بنا جميعا من نتائج المعادلات الصفرية وقوانينها وتداعياتها.