أحسب أن صراعا كامنا ومكبوتا في مصر "الدولة والمجتمع" بين سلطة الدولة المدنية التي تعلوها أحكام الدستور والقانون؛ الكل فيها سواء، ليست هناك خطوطا حمراء إلا ما حدده القانون أو هدد السلم الاجتماعي حقيقة أو عرّض بنيان الدولة للهزات وبين سلطان الكنيسة الأرثوذكسية ممثلة في سلطة الباب شنودة الذي حاول أحد كهنته أن يجعله خطًا أحمر فوق سلطة الدولة والقانون؛ لا يمكن المساس به أو الاقتراب منه. وبذلك نقل الكنيسة القبطية من كونها دولة داخل الدولة إلى دولة فوق الدولة كما يقول أستاذنا الدكتور محمد عمارة وهو أحد أقوى الأصوات ضد تسييس الكنيسة وتغولها في الشأن العام ومقاومة المشروع الطائفي المسمى "الأمة القبطية" الذي أحد رموزه البابا شنوده. لا أحسب أنها هذا الصراع سينتهي قريبا وإن كنا نأمل غير ذلك؛ لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه؛ فهذا الصراع المكتوب ليس إلا رأس جبل الجليد العائم؛ الذي توشك أن تصطدم به سفينة الدولة المصرية؛ وقد غاب الربّان والملاّح؛ وتسلم الدفة من ليس لها بأهل؛ أو أصحاب المشاريع الذاتية الذين لا تتجاوز طموحاتهم الاحتكارات والمضاربات وأعمال البورصة والسمسرة كما كتبت عنهم سابقا؛ غاب الربّان والملاّح وغابت البوصلة وغابت الرؤية؛ رغم أن أصواتا كثر حملت على عاتقها الصراخ بأعلى ما أوتيت من قوة حتى يستيقظ الربّان أو يعود أو حتى يستبدل هذا الطاقم الذي أثبت فشله قبل أن تغرق السفينة؛ أو تصطد بجبل الجليد العائم؛ وساعتها ينتهي الصراع لأنه لن يكون هناك شيء يتصارع حوله. لذلك ما أبدع وأصدق أستاذنا وحبيبنا الدكتور سيف الدين عبد الفتاح حينما صك وسك مصطلح "ثقافة السفينة" وكتب عنه وعمّقه بقلمه المنهجي النبيل؛ فما أحوج مجتمعنا أن تسوده "ثقافة السفينة" على قاعدة المشترك والمصير؛ هذا المصير الواحد الذي باتت تهدده مشاريع طائفية وطموحات طائفية بل وأحلام طوباوية. أقول إن هذا الصراع المكتوم بين مسلمي وأقباط مصر لا يمثّل إلا رأس جبل الجليد العائم؛ وما قذفت به الاحتقانات الداخلية المكبوتة وظهر على سطح الوطن إلا بعد أن تجذّرت أصوله في البنية المجتمعية؛ وحدث الانقسام العمودي في المجتمع وصار هناك مجتمعان لا يلتقيان: رؤية وأهدافا وطموحات مجتمعية وأحلام مستقبلية. فعلا: لقد حدث انقسام حقيقي؛ انقسام على المستوى الأفقي والرأسي؛ انقسام على أساس طائفي تحتمي فيه القلة بسياج الطائفة والمذهب والدين؛ وسادت مفاهيم الأغلبية والأقلية وتنازعت المفاهيم والحقوق؛ في استقواء بالخارج غريب على النسيج المصري؛ ومعارك تكسير عظام صفرية الكل فيها خاسر حتى من ظن أن حقق مطالبه أو طموحاته غير المشروعة أو حتى أحلامه الطائفية التي نادى بها مشروع الأمة البقطية منذ أكثر من نصف قرن. لقد حافظ أقباط مصر قبل نصف القرن الأخير على نسيج وحدتهم في المجتمع المصري فلم يسمحوا لأنفسهم أن تتخذهم قوى الاحتلال مطايا ذلول في سبيل مدّ أجل الاحتلال الذي بدأ يتهاوى تحت مطارق المطالبة بالاستقلال والحرية؛ فكانت ثورة 19 عنوانا وطنيا كبيرا ساد فيه الحسّ الوطني الأصيل؛ وانتصر بنيل الاستقلال ولو بعد حين. أما في النصف قرن الأخير فقد انتصر مشروع "الأمة القبطية" للحس الطائفي وسيطر على الكيان الرسمي لأقباط مصر؛ وغلبت عليه المشاريع الذاتية وحب السلطان على الأرض ليكون رئيسا لشعب الكنيسة بالمعنى الديني والدنيوي والسياسي وليس بالمعنى الروحي فقط. وإذا كان أخر ما يخرج من قلوب الصالحين حب الرياسة فما بالنا بغيرهم ممن أعماهم حب السلطة وشهوة السلطان؛ واستخدام المشاريع الطائفية مطايا لتحقيق أحلام مستحيلة. لا أحسب أن معارك ليّ الذراع التي تدخلها قيادة الكنيسة مع النظام هي في صالح الأقباط على المدى الطويل؛ صحيح قد تفرض بعض المطالب وقد تأخذ مساحات من الحركة أوسع لكنها مساحات أقرب ما تكون لفرض الأمر الواقع وإتاوات البلطجية لا حقوقا مشروعة أو مطالب عادلة؛ وعندما يجدّ الجدّ يحدث الانكشاف الرهيب ويدرك كثير من إخواننا القبط كم خدعتهم قيادتهم الروحية التي أرادت أن تبني مملكتها على الأرض ولم تقنع بالدور الديني أو الروحي وطفقت تبحث عن دور سياسي؛ ما ألعن السياسة حينما تلعب بها قوى تتدثر بعباءات الدين؛ تتدثر به ليقيها نقد الذات ومعارضة العقلاء ومحاسبة الجماهير. وصدق من قال: إن الهوى شر إله عبد في الأرض. وشر الأمور ما اجتمع فيه الهوى والمصلحة كما قال الشيخ عبد الرحمن الميداني في كتابه القيم: بصائر للمسلم المعاصر. أحسب أن موازين القوى تخدع الناظرين تحت أقدامهم من مثيري فتن الطائفية ممن يحتمون بأديرتهم أو كنائسهم وحولها لأدوات في حلبة الصراع السياسي والطموحات الذاتية. ولا أحسب أن الصراع الحالي يمكن احتوائه بعناق بين شيخ الأزهر ورأس الكنيسة؛ فما عادت هناك أسرار وأصبح الإعلام يكشف ما يدور خلف الستر والحجب وما عادت هناك ستر ولا حجب؛ لقد كشفت ثورة الإعلام والثورة التكنولوجية الرقمية المستور ونقلت ما يدور داخل جدران الكنائس والمعابد إلى ساحات المجتمع الواسعة. أحسب أن كلا الطرفين مخطئ: من يقامر بمستقبل شعبه في سبيل مشروعه الشخصي ومن يتاجر بمستقبل بلده في سبيل تخليد الذات الكاذب والكاذبة فما يدور من صراع مكتوم بين المسلمين والأقباط ليس "صراع نخب" أو ناشطين من أصحاب الرؤى والمواقف بل هو صراع هيكلي يتم على مواقع النفوذ وخبز الأبناء وموقع لدار عبادة "مسجد أو كنيسة" وصراع من هذه النوعية ليس من اليسير لملمته أو احتوائه بنفس الآليات القديمة لاحتواء الخلافات المذهبية تلك الطرق التي عفى عليها الزمن؛ وإنما يحتاج علاجا هيكليا يليق بحجم الأزمة وتجذّرها وتغلغلها وانتشارها. أحسب أن مصر الحالية "مجتمعا ودولة" ليست في حاجة إلى مزيد من الأزمات؛ ومن يديروننا بالأزمات واهمون يحسبون أن هذا يثبت عروشهم إنما الحقيقة أنه يجعلها على فوهة بركان وبرميل بارود بجوار مصنع لأعواد الثقاب. إن مصر الحالية "مجتمعا ودولة" هي جراحات ملتهبة تقيحت ليس على جلد الوطن وسطحه الظاهري بل في عمق بنيته الثقافية والمجتمعية؛ جراحات هتكت نسيج الوطن ومزقته شرّ ممزق؛ لقد اتسع خرق الصراع المذهبي على الرتق إن كان ثمة راتق أصلا لهذا الخرق والفتق الذي اتسع بعرض البلد وإن كان يمكن تداركه بخطاب وطني جديد يعلي القواسم المشتركة ويعلي رغبة العيش المشترك تسوده "ثقافة السفينة" على قاعدة المشترك والمصير؛ وينحّي جانبا محاولات الاستقواء بالخارج أو بتسييس القضايا وإثارة الجماهير والأتباع؛ فما عادت تجدي الاعتكافات الكاذبة. ولا زلت مصرا أن غالب القواعد القبطية عقلاء يغلب حسّهم الوطني مشاعر غيرهم الطائفية؛ لكن دائما أصحاب الصوت العالي من أصحاب التطرف الديني لا يدعون فرصة لصوت العقلاء أن يُسمع. رحم الله الرئيس السادات لقد كان قادرا على اتخاذ القرار الصائب سواء في شن الحرب على العدو الإسرائيلي وتحقيق العبور والنصر على العدو الخارجي؛ أو كبح جماح الأعداء الداخليين بتحجيم رؤوس الحقد ومثيري الفتن؛ وقمع أصحاب المشاريع الطائفية. حقا: في الليلة الظلماء يفتقد البدر.